إنها رواية عن الشارع. وأنت تسير في شارع من شوارع رامالله برفقة الراوي، تتلفت يمنة ويسرة، تتوالى أمامك المشاهد وتجهد في إيجاد تفسير لها أو منطق يديرها. وفي هذا الشارع شبان يفنون أعمارهم في أعمال شاقة لا تتناسب مع مستواهم التعليمي ولا مع أحلامهم، كوابيس تتوالى معلنة انسداد الأفق، والتعب الناتج عنها يمنع من التفكير في أي شأن آخر، الركض المضني وراء لقمة العيش يجعل البحث عن حلول فردية أو اجتماعية سياسية للوضع السيئ أمراً مؤجلاً يوماً بعد آخر. هكذا تغلق الدائرة المفرغة ويحاصر داخلها من لا ينتمي إلى القلة القليلة التي تعرف كيف تدوس على رؤوس الجميع لتصل إلى حيث تريد. الشارع محاصر، والحصار الخارجي ينتج عنه حصار من نوع آخر، ذلك الذي يضعه الشعب المسحوق حول عنقه، غريزة الحياة ضلت طريقها، تتخبط بعشوائية، تطيح بمن وُجدت لتنقذهم. القوي يأكل الضعيف، ولكنه يتآكل في الوقت عينه، يصارع لينجو، بينما يتجه نحو حتفه. المظلوم يظلم، من كُذِبَ عليه يكذب، من سُرِقَ منه يسرق… منظومة القيم تشلعت. ألا تذكرنا هذه الصورة بكل مجتمعاتنا العربية؟ رامالله مدينة محاصرة مرتين، وإن نجت مدن عربية أخرى من حصار الاحتلال الإسرائيلي، فقد فرض عليها حصار من نوع آخر.
السلطة “أصبحت هوس أغلب الفلسطينيين”. لأنك ضعيف، لأن القانون الذي يفترض أنه وجد ليحميك، إما غائب، أو أنه قد ينقلب عليك بدفعة من أحد المتسلطين، عليك أن تكون قوياً لتبقى.
“الخطر في داخلك وليس من خارجك”، على كل المستويات. العدو لم يعد يحتاج إلى شن حروب كثيرة أو كبيرة علينا. ننهش أنفسنا والبعض ينهش البعض الآخر. ألا يشبه هذا ما سماه المفكر يوسف الأشقر بحرب المجتمع على نفسه؟ ربما ذهبت الأمور إلى أبعد مما خطط له العدو، فغدت حرب الفرد على نفسه.
في الشارع تربى نوح، الراوي-البطل، وتلقى أهم دروس الحياة. في الشارع تحرش جنسي واغتصاب يرمزان إلى حياة الفرد المستباحة. عابر الشارع لا يملك سلطة حتى على جسده. بعض الأفكار فقط قد تبقى متمردة وتعبر عن تمردها بالأسئلة الغاضبة التي تطرحها، وبالكتابة. في الشارع رجال دين من حماس يفعلون عكس ما يعظون به، ويقدمون خطاباً ممجوجاً مملاً، “يرجع كل الهزائم والمشكلات، مهما بلغ حجمها، إلى البعد عن الدين وعدم الحكم بما أنزل الله.” وفي الشارع أهل السلطة الذين استبدوا وفرضوا وجهة نظرهم وتمتعوا بامتيازات حاكت لهم عالماً خاصاً لا يشبه ذلك الذي يعيش فيه نوح وأصدقاؤه ويصارعون للبقاء. “عاد الثوار إلى رامالله بعد أن أمضوا أعواماً في تونس منذ الخروج من بيروت عام 1982. أصبح أغلبهم وزراء ومسؤولين وأصحاب فنادق ومطاعم. أما البقية، بقايا المناضلين وبقايا الثوار، فقد أهملوا بعد أن انتهت خدماتهم، وتركوا بلا عمل.” إثر إهانة وجهها لنوح تلميذ في المدرسة التي يعلم فيها والرد اللاذع الذي واجه به والدة هذا التلميذ، يضطر والده لبيع دونماً من أرضه “ليسدد ثمن العطوة”، تلك الأرض نفسها التي دافع عنها ضد توغل المستوطنات، مقاوماً كل إغراءات البيع. كل ذلك لأن التلميذ كان ابن أحد المسؤولين في السلطة.
في الشارع عنف. رب العمل بهين العاملين ويضربهم، العنف وضيق الأفق يحول الشبان الموهوبين إلى أشخاص فاشلين، عبثيين، لا هم لهم سوى الجنس والنارجيلة.
ولعل ما حصل مع والد الراوي الذي أصابته “كل الامراض التي يمكن تصورها” بعد أن استولى الاحتلال على أرضه واقتلع أشجارها، يرمز إلى المجتمع الفلسطيني الذي اعتل وفقد تماسكه، كذلك الأمر بالنسبة إلى الشقيق الذي حاول رفع العلم الفلسطيني فوق سطح داره، فهوجم من قبل جيش الاحتلال وضرب بوحشية، فبقي بعدها لسنوات منطوياً على نفسه، وقد فقد جزءاً كبيراً من حاسة السمع. لا يسلم المهزوم الذي اغتصبت أرضه واستبيحت حقوقه من الأذى النفي والجسدي. يسأل مناضل قديم: “هل نضالنا كان عبثاً؟” يجيب نوح: “ليس عبثاً، لكنه خاضع لسياسة التسليع. كل شيء قابل للبيع، بما فيه الوطن ودماء الشهداء.”
في خضم مشاهد العبثية والجنون هذه، لا يبقى لنوح من ملجأ إلا الكتابة، ولكن الكتابة قد تكون عبثية أيضاً. “أدركت أن لا مكان للكلمة وسط هذا الضجيج. العالم مهرجان ثرثرة. إنها تقاوم كي تثبت حضورها، في بلاد أصبح بينها وبين القراءة عداوة. وإلا فلماذا لا تجد الكلمات طريقها إلى عقل العربي وقلبه؟” ربما لم يبق لنوح وأصدقائه إلا الهرب إلى دنيا الخيال، إلى عالم مواز كل شيء فيه متاح. هكذا تتحول الرواية إلى الكتابة السحرية ويتلون الواقع بالفنتازيا، كما كان يتلون واقع القرية في أثناء طفولة نوح بحكايات السحر والعجائب… يستيقظ نوح ذات يوم من نومه ليجد في يده مسدساً وعلى ثيابه دماء شخص ما… حلم أم حقيقة؟ أخبار عن قتل إحدى عشر جندياً إسرائيليا وجرح آخرين جراء إطلاق نار من مسدس مقاوم في إحدى المستوطنات القريبة من مدينة الخليل… هل لنوح يد في هذه العملية؟ هل ستقدم الرواية إجابة أم تحيلها إلى عالم الأحلام والفنتازيا؟ هل سينجح الحب في انتشال نوح من اليأس والجنون؟ هل سيثابر سيزيف على رفع الصخرة؟
“فلسطين متعبة، تشعر بأن لا شيء يلم شتاتها.” هل سيأتي جيل جديد من المبدعين من أمثال محمد الجبعيتي ليداووا جروحها؟