من المعروف أن أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، كان بصدد وضع كتاب عن “نشوء الأمة السورية” بعد إنجاز كتابه “نشوء الأمم”. وهو أعدّ المراجع وسجّل الملاحظات، غير أن المسوّدات اختفت خلال حملات الاعتقال في ثلاثينات القرن الماضي. وعبثاً جرت محاولة استرجاع هذه الأوراق الخاصة، إذ قيل لهم في دار القضاء إنها “ضاعت”. يقول سعاده بهذا الشأن: “أما الكتاب الثاني من هذا المؤلف فقد درستُ معظم مواده ووضعت له الملاحظات والمذكرات، وهذه جميعها صُودرت أثناء الاعتقالات الثانية في صيف 1936. وسأسعى للحصول عليها من المحكمة لأنها أوراق شخصية لا دخل لها في القضية، وانتهز الفرصة لتأليف الكتاب الثاني”. (الأعمال الكاملة، الجزء 3. صفحة 6). وعلى رغم مساعي عدد من الباحثين القوميين الحاليين للعثور عليها بين المحفوظات الفرنسية في باريس، إلا أن المخطوطة ما تزال مفقودة حتى الآن.
أبدى سعاده اهتماماً فائقاً بالتاريخ، فهو الذي يقول إن “الأمة التي لا شأن لها في التاريخ لا شأن لها بين الأمم”، ويضيف: “فليس لأمة لا تاريخ لها منزلة محترمة وحقوق معترف بها عند الأمم الأخرى”. (الأعمال الكاملة، الجزء
من المؤسف أن أحداً من المؤرخين القوميين الاجتماعيين لم يعمل على إظهار أو إيضاح عناصر ومكونات نظرية سعاده في التاريخ. وسنعود إلى هذا الموضوع في كتابات لاحقة. بل أن الرفيق الدكتور سليم مجاعص كتب لي في رسالة خاصة: “أمام هذا القحط الفكري في ناحية النظرة التاريخية، يجب أن ننظر إلى محاولة أسد الأشقر كأمر فريد يتطلب شجاعة فكرية كبيرة”. ومما يدعو إلى الأسف أن العمر لم يُتحْ للأمين أسد الفرصة الكافية للعمل على بلورة أفكاره التاريخية، خصوصاً لجهة ما نعرفه عن بعض آراء سعاده في الأحداث التاريخية التي مرّت بها الأمة السورية منذ أقدم العصور. مع تأكيدنا على أن المؤلف لم يقصد من عمله الموسوعي هذا أن يعطينا الكلمة الفصل في مهمة كتابة التاريخ السوري على قاعدة النظرة القومية الاجتماعية إلى نشوء الأمة السورية. فالمهمة ما تزال قائمة على مستويين: محاولة تحديد أسس نظرية سعاده في “قلب النظريات المعروفة حتى الآن عن سورية وتاريخها”، ثم إعادة كتابة تاريخنا القومي في ضوء التحديد الذي نتوصل إليه.
لا نريد لهذا المقال أن يكون عرضاً أو مراجعة نقدية لكتاب “الخطوط الكبرى في تاريخ سورية ونشوء العالم العربي”. وإنما ننطلق من بعض الأفكار الواردة فيه كي نبدي رأياً نعتقد بأنه يغطي شريحة واسعة من المؤرخين المهتمين بالعالم العربي، بمن فيه
وكي لا أطيل البحث وأثقل على القارئ، مع وعد بالعودة قريباً إلى هذا الموضوع الحيوي، أرى من الضروري أن أشدد على نقطتين غالباً ما يتجنبهما المؤرخون ورجال السياسة، إما جهلاً أو خبثاً وهما: 1 ـ وضع “العرب” في شبه الجزيرة العربية. 2 ـ آليات ونتائج اندماج الهجرات النازحة من صحاريها إلى الهلال السوري الخصيب. ذلك أن المعرفة الدقيقة لمجريات هاتين النقطتين ستوفر على جميع المعنيين بكتابة التاريخ الحقيقي تبعات السقوط في مغالطات ذات تأثيرات سياسية واجتماعية خطيرة.
النقطة الثانية: ينطلق معظم المؤرخين وعلماء الأجناس البشرية من قاعدة أن هجرات عدة من الجزيرة العربية قصدت الهلال الخصيب في موجات متتابعة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، القسم الأكبر منها أغنى الحضارة السورية أو على الأقل لم يعرقلها. العلماء الغربيون اصطلحوا على مفردة “الساميين” لوصف القادمين الجدد، أما هؤلاء فعرّفوا عن أنفسهم بالآكاديين والبابليين والعموريين والكنعانيين والأشوريين والآراميين وليس “العرب”! إن أقدم نص يذكر “العرب” وصفاً جغرافياً واسماً لجماعات دأبت على تهديد الحواضر السورية جاءنا من العصر الأشوري في زمن الملك شلمنصر الثالث الذي حكم ما بين 858 و824 ق.م. (كتاب “أول العرب”، تأليف لمياء الكيلاني وسالم الآلوسي ـ منشورات نابو، لندن 1999. صفحة 12). ويبدي الرفيق الدكتور مجاعص في رسالته رأياً مغايراً وملفتاً بهذا الشأن، فيقول: “أنا لا أوافق على القول إن الجزيرة العربية هي مهد الساميين. هذا تبسيط كبير. إن الدراسات الجينية الحديثة لا تتوافق مع هذه النظرية (…). وبعض الدراسات التي مرّت علي تقترح أن ما يظهر على شكل هجرات هو في الواقع تحرك بشري من البادية إلى الحضر في أطراف سورية وليس من جزيرة العرب”.
وقبل أن نُقيّم الفتح العربي ـ الإسلامي وفقاً للمقياس المستعمل أعلاه، يجدر أن نعود إلى نظرية سعاده في التاريخ. فنراه يعدّد في مقدمته للطبعة الرابعة من شرح المبادئ العناصر التي تكوّنت منها الأمة السورية، والفتوحات والغزوات التي مرّت عليها. (الأعمال الكاملة، الجزء 7. صفحات 315 ـ 318). ويصف بعض تلك العناصر بأنها “متجانسة مع المزيج السوري”، مشدّداً في مقاطع عدة على “المزيج السلالي المتجانس”. ونظراً إلى الأهمية التي يسبغها سعاده على عامل “التجانس” في نشوء المتحد الاجتماعي الراقي في سورية الطبيعية، فإني أعتقد بأن مبدأ “التجانس” يشكل إحدى الركائز الأساسية في نظريته التاريخية.
إن الموجات البشرية والهجرات الواسعة، سواء من الجزيرة العربية أو من غيرها، والتي سبقت الغزو الفارسي (القرن السادس ق.م.)، ثم الاجتياح اليوناني المدمّر بقيادة الإسكندر المقدوني (القرن الرابع ق.م.)، اتبعت مسار التفاعل والاندماج الذي مكنها من تبني الثقافات والأنماط المحلية. لكن الفتح العربي ـ الإسلامي شذّ عن ذلك المسار، مسبباً قطيعة معرفية في ثلاثة أمور جوهرية في حياة الأمة:
أولاً ـ حمل الفاتحون العرب ديناً جديداً يختلف عن الاتجاهات الروحية السائدة في سورية، وفي مقدمها الدين المسيحي. وقد أقام الإسلام المنتصر قطيعة إيمانية واضحة مع الماضي في الجزيرة العربية، فبات ما قبل الدعوة المحمدية مجرد “جاهلية ذميمة”. لكن النزعة الأخطر تمثلت في القطع مع المستقبل أيضاً: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة 3)، {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران 19). وإذا أضفنا إلى ذلك كون الرسول محمد “خاتم النبيين” (الأحزاب 40)، فهذا يعني أن سورية بعد الفتح وجدت نفسها محكومة بالتطور في اتجاه مرسوم كبلته الاعتبارات الدينية الماورائية. ويوجز الحسن بن يسار البصري (642 ـ 728)، أحد أبرز فقهاء عصر صدر الإسلام، الوضع بالعبارة التالية: “أمتكم (يقصد المسلمين) آخر الأمم. فلا أمة بعد أمتكم، ولا نبي بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم. أنتم تسوقون الناس، والساعة تسوقكم”.
ثانياً ـ إلى جانب الإسلام الذي سرعان ما أصبح دين الحكام الجدد، كانت هناك اللغة العربية المرتبطة عضوياً بالقرآن: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} (يوسف 2)، {قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلكم تتقون} (الزمر 28). لقد مرّت على سورية هجرات عدة تتكلم لغات مختلفة. وكان من السهل على السوريين استيعابها في سياق التفاعل والاندماج. وانطبق ذلك على اللغة العربية كونها من أرومة الآرامية السريانية، التي كانت اللغة القومية عند الفتح. لكن ارتباط اللغة العربية بالقرآن أدى أيضاً إلى قطيعة مع التراث السوري المكتوب باللغات الأخرى.
ثالثاً ـ قلنا في فقرة سابقة إن البنية الاجتماعية في الجزيرة العربية تقوم على الانتماء القبلي. وتذكر المصادر التاريخية أن بعض غزوات المسلمين تم تنظيمه على أساس قبلي. كما وأن توزيع الأراضي السورية المفتوحة أخذ في الاعتبار هذه الناحية. ومن المعلوم أن الغزاة عادة ما يندمجون في الأطر المدينية الراقية. إلا أن العكس هو الذي حدث مع الفاتحين العرب، فهم “قبلنوا” (من قبيلة) المجتمع السوري عوضاً عن أن “يتمدينوا” (من مدينة). فاندلعت صراعات بين قيسي ويمني، بين أنصاري ومهاجر، بين هاشمي وسفياني، بين أموي وعباسي، بين عربي وشعوبي… ثم نشأ نظام الموالي كطريقة لتعزيز الانتماء القبلي، وهكذا.
وأخيراً نختم بالقول إنه من الصعب تناول تاريخ سورية بمعزل عن هذه الاعتبارات، والأمر نفسه يسري على تاريخ العرب في موطنهم الأصلي قبل الإسلام. فالقراءة النقدية المنزهة عن الظروف الآنية المتغيرة بطبيعتها، وحدها كفيلة بتوضيح الخطوط الكبرى للتاريخ السوري الحضاري. إن كتابة التاريخ العربي منذ المراحل الأولى خطوة مفيدة للإضاءة على جوانب من تاريخ سورية الطبيعية. لكن لا يجوز للمؤرخين أن يتعاملوا مع الأدلة بطريقة قسرية، من أجل إثبات فكرة سياسية أو إيديولوجية مسبقة. ذلك أن الكتابة التاريخية الموضبة والمعلبة لها صلاحية زمنية محدودة تصبح بعدها خارج التاريخ!
0 Comment
دراسة قيمة جدا ويبنى عليها. اعتراضي او تحفظي هو على شأن منشأ الهجرات الى الهلال الخصيب. فليس مهما مصدر او منشأ الهجرات في تحديد الهوية او صقلها ، ولكن قد يكون المنشأ هاما في موضوع ” التجانس ” الذي بدوره يسهل الاندماج ثم الانصهار. نرتقب منك المزيد في هذا البحث الشيق والعميق.