غياب الدبلوماسية يعزل واشنطن-ترجمة فادي خوري

Share

غياب الدبلوماسية يعزل واشنطن

بول كريغ روبرتس

أدى انحلال الاتحاد السوفييتي عام 1991 إلى إزالة كافة القيود أمام أحادية القرار لدى واشنطن، حيث اغتنم المحافظون الجدد، الذين كانوا قد وصلوا آنذاك إلى مركز القرار الأميركي، الفرصة لاستبدال الدبلوماسية بالتهديد والتجبر. ولعل المثال الأكثر تعبيراً عن هذه الحالة هو ما حصل في عهد جورج بوش الإبن عندما وجّه مساعد وزير خارجيته، ريتشارد آرمتج، أوامره إلى باكستان لتنفذ ما يُطلب منها وإلاّ ستتعرض لقصف يعيدها إلى العصر الحجري. وجاء الاعتراف بذلك على لسان الرئيس الباكستاني نفسه، بعد أن كان قد نفّذ ما طُلب إليه بحذافيره.

أما بالنسبة لروسيا إبان حقبة الرئيس بوتين، فنرى أن مستوى التهديد الأميركي لها قد فاق المعهود، باعتبار أن بمقدور موسكو مواجهة القصف بقصف مضاد، ولكن التهويل تحول هذه المرّة إلى “نفّذوا ما يُطلب منكم وإلاّ سنفرض عليكم العقوبات”.

العقوبات بحد ذاتها ليست إلاّ تأكيد هيمنة دولة على دولة أخرى، وتكون بذلك إعلاناً صارماً بأن فارض العقوبات لديه سلطة دولية، تفوق ما يوفره عادةً الشرع الدولي، للإملاء على دول أخرى ذات سيادة بتنفيذ ما يُطلب منها القيام به أو تحمّل تبعات رفضها التنفيذ.

إيهود باراك- مادلين أولبرايت

ما أن أزيلت العقبات من أمام تفرّد واشنطن باتخاذ القرارات الدولية سرعان ما استُبدلت الدبلوماسية بسياسة فرض العقوبات التي أصبحت الأداة الجديدة في سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية، وتجلّت بأبشع صورها في عهد كلينتون حين فرض العقوبات الاقتصادية القاسية بحق العراق. وفي أعقاب تقرير للأمم المتحدة كان مفاده أن سياسة العقوبات الأميركية على العراق أدت إلى قتل نصف مليون طفل، وجّه الإعلامي الأميركي لزلي ستال، خلال البرنامج التلفزيوني “ستون دقيقة”، سؤالاً إلى وزيرة خارجية كلينتون اليهودية مادلين أولبرايت حول ما إذا كانت العقوبات تستأهل قتل نصف مليون طفل، فجاء ردّها بالإيجاب “نعم العقوبات تستحق دفع هذا الثمن”. وتجدر الإشارة هنا إلى أن اليهود يشعرون نفس الإحساس تجاه الفلسطينيين، فبعد أن استولوا على بلادهم لم يعد، بنظر اليهود، ثمة داع لوجود الفلسطينيين، فقتلهم هو الحل الوحيد عند الإسرائيليين. وعلى حد تعبير وزير إسرائيلي، إذ قال “نحن فقط نقوم بما قام به الأميركيون بحق سكان أميركا الأصليين المعروفين بالهنود”. وبما أن أميركا تتشارك مع إسرائيل في ارتكاب هذه الجريمة، لم يعد مستغرباً استخدام واشنطن لحق النقض “الفيتو” ضد أي قرار في الأمم المتحدة يدين جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين! فنرى الدولتين المجرمتين متحدتين مقابل العالم كلّه.

من منظور واشنطن، كان لاتباع هذه السياسة مردود طالما توخته الإدارة الأميركية، ففي القرن الواحد والعشرين مضت الولايات المتحدة في تدمير سبع دول تدميراً كاملاً، وهي مستمرة الآن في تدمير مزيد من الدول.

إذن، كلّما خالفت دولة من دول العالم أوامر واشنطن يكون مصيرها التعرض لفرض العقوبات. ولعل إيران وكوريا الشمالية وروسيا هم آخر ضحايا هذه العقوبات، ناهيك بالضغوطات التي تمارسها واشنطن على دول أخرى كتلك في الاتحاد الأوروبي للانضمام إلى مشروعها، وإلاّ فإن العقوبات ستطال حلفاءها أيضاً.

استمرت واشنطن بجني ثمار سياساتها تلك إلى أن بلغ إصرارها على تطبيق مبدأ الهيمنة درجة فاقت ما هو مقبول دولياً. وهذا حصل فعلاً حين أقدم ترامب، بإيعاز من إسرائيل وعملائها من المحافظين الجدد الذين يشكلون دائرة مستشاري الرئيس الأميركي، على نقض الاتفاق النووي الإيراني الذي كانت قد أبرمته كل من الولايات المتحدة الأميركية وإيران وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والانسحاب منه. وحين تمنّع “اتباع” واشنطن الأوروبيون من الانسحاب من الاتفاق المذكور سارع ترامب إلى تهديدهم بالعقوبات.

من نافل القول إن أوروبا تعاني كثيراً من حالات البطالة، وجاءت العقوبات الأميركية لتزيد الطين بلة لدى دول أوروبية كانت قد استأنفت علاقاتها التجارية المربحة مع إيران. وقد وعت هذه الدول أخيراً أن ما تريده واشنطن هو أن على أوروبا أن تضحي اقتصادياً في سبيل بسط الولايات المتحدة هيمنتها على الدول، ولو على حساب الاقتصاد الأوروبي.

ترى اليوم الحكومات في كل من أوروبا وبريطانيا، التي تعتبر من حاشية أميركا منذ عام 1945، أن الكيل قد طفح، حتى أننا نشاهد اليوم بوادر العصيان من على مواقع الانترنت، على الرغم من التعتيم عليها من قبل الإعلام الرسمي الموجّه. كما وبرزت تصريحات من مسؤولين أوروبيين وفي الاتحاد الأوروبي مفادها أنه آن الأوان لأوروبا أن تعمل لخدمة مصالحها هي بدلاً من مصالح واشنطن. حتى أن رئيس الاتحاد الأوروبي، والاتحاد هذا وليد جهاز الاستخبارات الأميركية، إنضم إلى جوقة المنادين بالعصيان.

السؤال الآن هو: هل سيدوم هذا العصيان أم أنه مجرد همروجة تندرج ضمن الألاعيب الأوروبية للحصول على مزيد من المساعدات المالية من واشنطن؟

مما لا شك فيه أن فلاديمير بوتين، ومنذ سنوات قضت، يتلقى الاستفزازات والإهانات، وهو يرقب كيف أن الغطرسة الأميركية ستؤدي إلى تفتيت وشرذمة إمبراطورتيها الأوروبية. ويبدو أن صبر بوتين بدأ يجني ثماره، بالنظر إلى ما يحدث اليوم بين أوروبا وواشنطن، حيث نشهد ما يشير إلى أن واشنطن بدأت بعزل نفسها، فها هي توجّه أوامرها إلى كل من الهند وتركيا، والأخيرة عضو في حلف شمالي الأطلسي، بعدم عقد صفقات شراء أنظمة أسلحة روسية، بيد أن الدولتين رفعتا معاً إصبعيهما الأوسطين بوجه واشنطن، رافضتين تدخلات الأخيرة في شؤونهما الداخلية، وماضيتين في عملية شراء الأسلحة الروسية.

من جهته، صرح جان كلود جنكر، رئيس المفوضية الأوروبية، قائلاً إنه حان الوقت كي توثق أوروبا علاقاتها من جديد مع روسيا وتتوقف عن التهجم عليها. فهل سينقلب الاتحاد الأوروبي، وليد جهاز السي آي إي، على واشنطن؟ إن هذا الأمر لممكن جداً. فبأخذنا بعين الاعتبار تهديد واشنطن لألمانيا بفرض عقوبات عليها إذا مضت الأخيرة في تعاونها مع روسيا في مشروع أنابيب النفط “ستريم 2″، الذي سيسهل وصول مصادر الطاقة إلى أوروبا، يتضح كيف أن واشنطن تفضل أن تغرق أوروبا في ضائقة ناتجة عن شح في مصادر طاقتها من أن تعتمد على روسيا في توفير تلك الطاقة، لأن هذا الاعتماد سوف يساهم في تقليص تأثير الولايات المتحدة على أوروبا.

حتى أن الزعيمة الألمانية ميركل، “مومس” واشنطن لعقود من السنين، قد غيرت لون جلدها هي الأخرى، حيث أعلنت مؤخراً أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد الشريك السياسي الذي يمكن التعويل عليه، مضيفة بأن على ألمانيا من الآن وصاعداً أن تقلّع شوكها بيديها. وقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أن 82 بالمائة من الألمان يرون أن واشنطن باتت بالفعل شريكاً يصعب الركون إليه.

بالرغم من أن واشنطن تتمرغ اليوم في وحول عجزها الأسطوري، فهي ما فتئت تمعن في إضعاف علاقاتها مع دول حاشيتها الأوروبية، من خلال تهديدها بشن حروب تجارية ضدها. ناهيك بأنه لا يوجد اليوم في الإدارة الأميركية من يتمتع بالقدر الكافي من الحذاقة لإدراك أن المشاكل التجارية التي تعاني منها الولايات المتحدة هي من صنعها هي بالذات، وليس للمكسيك أو كندا أو الصين أو أوروبا أي دور في ذلك. ولعل أبرز العوامل المؤدية للمشاكل التجارية التي تعاني منها أميركا هي عولمة الأسواق والمفاهيم الاقتصادية النيو-ليبرالية التي تتبنّاها مصارف الاستثمارات في نيويورك.

إن العجز التجاري الأميركي مع الصين يُعزى بالدرجة الأولى إلى تصدير الأشغال الأميركية إلى الخارج، حيث إن غالبية المنتوجات كـ “ليفايس” وأحذية “نايكي” وأجهزة “آبل” للمعلوماتية، التي كانت تصنّع في أميركا بواسطة عُمّال أميركيين باتت اليوم تُنتجُ في الخارج حيث أجور اليد العاملة وأسعار التطابق الصناعي أقل بكثير من تلك الأميركية. ومما لا شك فيه أن تلك المنتجات المصنّعة في الخارج للاستهلاك الداخلي في الأسواق الأميركية بواسطة شركات محلية تعتبر فوراً بضائع مستوردة لدى دخولها الولايات المتحدة، لذا يكون التصنيع في الخارج، حتى ولو من قبل شركات أميركية، هو السبب الرئيسي للعجز التجاري الأميركي.

في المقابل، فإن هذه الحقيقة الأساسية التي لا لبس فيها لا تجد طريقها إلى الإعلام الرسمي الموجّه، كما ولا يأتي على ذكرها خبراء الاقتصاد النيوليبراليون أو دوائر الإحصاء الحكومية الأميركية. لا بل تتذرع الإدارة الأميركية أن هذا الأمر مرتبط بما تقوم به الصين أو المكسيك أو كندا. ويرافق ذلك الادعاء تغافل مقصود لفكرة أن العجز هو نتيجة مباشرة لأنشطة الشركات الأميركية الساعية إلى تسجيل مبالغ ضخمة من الأرباح على حساب الاقتصاد المحلي.

إن ما حدث في الماضي وترافق مع انهيار الاتحاد السوفييتي، هو أن الحكومتين، الاشتراكية في الهند والشيوعية في الصين، اتخذتا حينها قراراً مبنياً على أساس أن الرأسمالية هي الموجة التي ستطغى على المستقبل، ففتحتا أسواقهما العمّالية للرأسمال الأجنبي.

الجدير بالذكر فيما يتعلق بتلك الحقبة هو أن الشركات الأميركية التي لم تشأ أن تهجر مدنها وتتخلّى عن اليد العاملة المحلية ورفضت تصديرها إلى الخارج، قد أُجبرت على فعل ذلك نتيجة تهديدات من مصارف الاستثمارات في نيويورك، إذ طُلِب من المنتجين المحليين نقل عمليات إنتاجهم إلى الصين حيث اليد العاملة الرخيصة بغية مضاعفة أرباحهم، وأنهم، في حال بقائهم في أميركا، سيواجهون احتمال سيطرة شركات الإنتاج الخارجي على مقدرات شركاتهم.

لعل الهيجان الذي لحق بالولايات المتحدة، فيما يتعلق بالأشغال ذات الإنتاج والمردود العاليين، كان مصدره وول ستريت وطمع أصحاب الشركات والمساهمين فيها. وكما جرت العادة، فإن المجموعات القابضة ذات المصالح الشخصية، إضافة إلى دُمياتها في واشنطن، توجه دائماً أصابع الاتهام فيما يحدث إلى جهات أجنبية لتبقى هي معصومة من أي لائمة في هذا الاطار.

ونرى اليوم أنه بدأ الترويج، بشكل مغاير للحقيقة، لما يعرف بـ”الحرب التجارية”. بينما في الواقع، فإن إدارة ترامب ليست في حالة حرب مع الصين وبلدان أخرى بقدر ما هي وسط حالة نزاعٍ مع الشركات الأميركية التي نقلت عملياتها في إنتاج البضائع التي تستهلك داخل الولايات المتحدة، إلى الخارج، وحالة الحرب هذه هي أيضاً مع مصارف نيويورك التي فرضت تلك الإجراءات. كما أن الرسوم التي يتم الحديث عنها لن تُفرضَ على الصادرات الصينية، بل على منتجات الشركات الأمريكية التي صُنِّعت في الخارج. وبكلام آخر، فإن هذه الرسوم ستؤدي إلى ارتفاع في الأسعار التي سيدفعها الأميركيون داخل الولايات المتحدة على المنتجات التي تصنعها شركات أميركية في الصين.

إن الرسوم التي أقرها ترامب على الصلب والألمنيوم أدت إلى زيادة ملحوظة في أسعار المواد الخام التي تستخدمها الولايات المتحدة الأميركية في صناعاتها، وهذا يعني، بطبيعة الحال، أن أسعار المنتجات الأميركية التي تعتمد على هاتين المادتين سترتفع هي نفسها، الأمر الذي سيلحق الضرر بالميزة التنافسية للاقتصاد الأميركي، إضافة إلى كونه ذا وجهة معاكسة لمبدأ الحماية لأن هذا المبدأ يقوم على أساس تخفيض تكلفة المواد الخام ومن ثم حماية المنتجات المحلية بإضافة رسوم على المنتجات الأجنبية المنافسة. وبكلام مبسط، يصار إلى تخفيض أسعار البضائع المصنعة محلياً مقابل زيادة أسعار البضائع المستوردة.

لقد كذب خبراء الاقتصاد النيوليبراليون أيضاً حين أعطوا ضمانات بأن الوظائف المهنية والصناعية الأميركية حين تُرسل إلى الخارج سيستعاض عنها بوظائف أفضل للأميركيين، حيث تشير البيانات الرسمية للرواتب أن الوظائف البديلة أسوأ بكثير مما وعد به هؤلاء الخبراء، لدرجة يمكن مساواتها، من حيث قيمة الرواتب، بتلك في بلدان العالم الثالث.

نتيجة لما سبق ذكره، يمكننا القول إن تصدير الوظائف إلى الخارج لم يجر على أميركا إلاّ الكوارث ، ولعل العجز التجاري هو الأقل ضرراً بالمقارنة مع المشاكل الأخرى، فخسارة الوظائف ذات الرواتب العالية قد أضعف القدرة الشرائية لدى المستهلك الأميركي، وللحفاظ على المستوى المعيشي المعتاد عند الأميركيين اضطر المستهلكون إلى الغرق في الديون للتعويض عن فقدان رواتبهم. والنتيجة هي أن 41 % من الأميركيين عاجزون اليوم عن الحصول على 400 دولار في حال تعرضهم شخصياً لأي نوع من الحالات المعيشية الطارئة.

وفي الحديث عن ذيول اتباع السياسات الاقتصادية آنفة الذكر، لا بد من الإشارة إلى أن موازنات عدد من الولايات، التي كانت تعتبر مراكز ثقل من ناحية التصنيع والإنتاج، باتت تترنح هي الأخرى، الأمر الذي أدى إلى بروز تساؤلات حول قدرة تلك الولايات في الوفاء بتعهداتها لدفع التعويضات ورواتب التقاعد لعمّالها. ذلك لأن فوائد تلزيم الإنتاج إلى الخارج اقتصرت على مجموعة صغيرة من مدراء منفّذين ومساهمين في شركات معينة فقط، حتى هذه الفوائد تبدو متقزّمة جداً مقارنةً بالتكاليف الباهظة المتأتية عن تصدير القدرات الإنتاجية إلى الخارج.

ما سيزيد الطين بلة من ناحية تأزم العجز التجاري الأميركي هو استحداث العمّال الآليين (Robotics)، فالتقنيون الحذقون السعداء باستبدال البشر، كموارد عُمّالية، بتقنيات الآلة هم بالفعل أغبياء، لأنهم بذلك  يقضون كلّياً على نسيج النظام الاجتماعي. لا يمكن للرسوم المفروضة عل البضائع المستوردة أن تحمي الوظائف التي سيفقدها الأميركيون نتيجة إناطتها بالإنسان الآلي، أضف إلى ذلك فإن الآلة لا تشتري المنازل والأثاث والسيارات والثياب والطعام والشراب والحفلات الترفيهية والهواتف الذكية وأجهزة الكومبيوتر. فالأموال التي سيتم ادخارها باستخدام الآلة بدل الأشخاص لن تكون متوفرة لابتياع المنتجات التي يصنعها الآليون، وهذا سيؤدي إلى انهيار طلب المستهلكين. الخروج من هذه الأزمة هو فقط عبر الرؤية الاجتماعية للإنتاج من خلال جعل أبناء المجتمع أولياء على المحاصيل والمنتجات. حتى هذا المخرج هو حلٌّ جزئي لأنه لا يوفر الإجابة على الأسئلة المتعلقة بكيفية الاستفادة من الوقت المتوفر عند الناس عامة، أو بمصير الذين سينضمون إلى لوائح العاطلين عن العمل والذين لن يكون باستطاعتهم تعزيز قدراتهم ومهاراتهم.

الرأسمالية، وبالرغم ممّا يزعم البعض بأنها تؤمن توزيعاً فعّالاً للموارد والطاقات، تتميز بأفق زمني قصير جداً مرتبط بالفترة الزمنية التي سيصدر فيها التقرير الربعي للأرباح، وبالتالي يصبح كل مقوم من مقومات هذا النظام عنصراً قصير المدى. نحن اليوم أمام حالة يدمر فيها أصحاب المناصب التنفيذية الشركة نفسها التي يعملون فيها، وذلك بإغراقها في الديون، فقط من أجل إعادة شراء أسهمها، وبالتالي رفع قيمة رأس المال وإيصال “علاوة الأداء” لديهم إلى قيمته القصوى.

عندما تقوّض قوة الاقتصاد لا بد من أن تتحول الولايات المتحدة الأميركية، كواحدة من تبعات تسجيل نسب أرباح طائلة بأقصر وقت ممكن، إلى بلد يسعى دائماً إلى الحرب. نهب الآخرين يصبح سبيلاً للمحافظة على النظام، وبذلك تصبح الهيمنة على الآخرين إحدى وسائل البقاء.

الأمور وصلت إلى ذروتها في نظام ترامب. فشخصية “البلطجي” فيه، التي تضاجع المحافظين الجدد مع ما يتميزون به من روح عدوانية وتوق للسيطرة والقتال العسكري، لا بد وأن تتمخض عنها حروب بشتى الأشكال الممكنة. ولا شك في أن الصراعات الاقتصادية التي تهدد بها واشنطن حلفاءها قد تؤدي إلى فك أوروبا تحالفاتها معها ليستعاض عنها بتقارب باتجاه روسيا.

من الطبيعي أن انحدار قدرات واشنطن في الهيمنة على الآخرين هو من الشروط المسبقة لانتعاش الاقتصاد الأميركي. فحين لا يكون النهب والاستيلاء على مقدرات الأمم الأخرى خيارات مطروحة تتحول السياسة إلى الاهتمام بالداخل. وبذلك تجب إعادة هيكلة مسؤوليات الشركات لتستوعب الموظفين والزبائن والمتحدات إلى جانب المساهمين على حدٍ سواء. كما ولا بد من إعادة العمل وفق قانون شيرمان المناهض لمبدأ تسلط المصارف والمؤسسات المالية على الأعمال والتجارة، وكذلك إلغاء الاحتكارات وتقويض قدرات المصارف الكبرى في التحكم بالشركات واسترجاع الشركات المنتجة في الخارج إلى الداخل من خلال فرض الضرائب على المنتجات في الأسواق الأميركية حسب مكان تصنيعها.

من الناحية التاريخية، لم تشكل التجارة الخارجية عاملاً ذات أهمية في النمو الاقتصادي للولايات المتحدة. وكان بروز الطبقة المتوسطة وراء قيام سوق استهلاكية كافية لانعاش شركات وصناعات كبيرة الحجم. هذه الأميركا المزدهرة قد تم القضاء عليها جرّاء ظهور العولمة الاقتصادية. إعادة الحيوية للاقتصاد الأميركي تنتظر مجيء طبقة جديدة من القياديين تخلو من عقد الغطرسة الهادفة إلى استثناء الآخر وترفض لعب دور بلطجي العالم وتصبُّ اهتمامها على حل المشاكل.

0
0