ولدتُ بداية الثمانينات في دمشق، ولست فلسطينياً من جهتي الأب والأم. كنت طفلاً في مرحلة التعليم الابتدائي عندما حملت إلى والدي ورقة رسمت عليها خريطة مشوهة لبلاد الشام، ومع الورقة حملت في رأسي الخطة السرية لتحرير فلسطين، وبترفع متعالٍ على الكبار العاجزين بدأت أشرح لوالدي مشروعي المتكامل. ينطلق جيش من هنا، وجيش من هناك، ومن هنا جيش يقطع فلسطين لشطرين، ولأنني فطن كان للبحر نصيب من خطتي والأسهم، فاستخدمت جل ما عرفته ذلك الوقت من مفردات ككلمة غواصة حربية، وكلما كنت أزيد من عدد الخطوط ومن درجة ضغط قلم الرصاص على بعضها بعضاً كان اقتناعي بإبداع خطتي وإفحامها لما عجز الكبار عن حله.
لم يكسر والدي خاطري، وحاول إخباري بأن هذه الدولة جيشها ضعيف وتلك لا تملك جيشاً تقريباً، وأهم ما عرفته منه وما وقع عليَّ كالصاعقة أن ثمة معاهدة سلام بين تلك الدولة والعدو فهي لا تقاتل! متى تم هذا الامر؟ وكيف لم أعرف به؟ وغيرها من الألغاز التي لم أفهم معناها سوى أن خريطتي لا قيمة لها.
من السخافة الادعاء أنني كنت أملك هماً قومياً في طفولتي، أو تلقيت تربية سياسية معقدنة عن العدو، ببساطة كان الراديو الصغير والموجود في بيت كل أسرة سورية ينقل لي على صوت دمشق وبي بي سي وأحيانا صوت بغداد (في الليل) وصوت فلسطين (من دمشق) أخبار أطفالٍ يضربون بالحجارة جيش الصهاينة، وثمة من يقتله العدو فيكون شهيداً ومن يعتقل ويسمى أسيراً، وبالتأكيد لا أستطيع إلى يومنا هذا أن أمحو من ذاكرتي المشهد الذي شاهدته في طفولتي لجندي أسرائيلي يحطم عظام أطفال فلسطينين بالحجارة، أو أصوات أمهات الشهداء الغاصة بالدموع وهي تتحدث.
سمعت الكبار يقولون إن دخول صدام حسين إلى الكويت كان حماقة، ولم يمنعني هذا من قص صورته من مجلة أجنبية ووضعتها على الحائط عندما قصف إسرائيل، ولكنني أزلتها عن الحائط عندما سمعت الكبار أيضاً يعددون أخطاء صدام حسين القاتلة.
ثمة ما كان غامضاً ولا أفهمه، فآنستي الفلسطينية التي كانت تعلمني الإنكليزية في المرحلة الإعدادية وأحبها إلى درجة العبادة، أخبرتها في نهاية أحد الدروس بفخرٍ إنني سمعت من الراديو أن أطفال الحجارة في جبل النار (نابلس) أصابوا جندياً برأسه اليوم، فردّت بأن لا يوجد ما يدعى أطفال حجارة وأنهم أطفال ضحك عليهم الكبار! وكنت أخجل أن أسألها كيف ضحكوا عليهم؟ من هم هؤلاء الكبار؟ كنت أمقت غموض إجاباتها، أليس المعلم من يجب أن يبوح بما لا يباح؟ بقيت أحبها لأنني عام 2000 عندما كان التلفاز ينقل أخبار انسحاب الجيش الاسرائيلي في الجنوب وجاءت لتعطي أخي الصغير درساً شاهدت ذهولها ودموعها. نعم، كنت بهذه السذاجة، أرفع أو أحط من شأن كل من يقترب أو يبتعد عن فلسطين.
شاهدت وجوم وجوه الكبار في أثناء توقيع اتفاق أوسلو، ولكني سمعت أيضا من بعضهم أن قيام دولتين هو الحل المرحلي الوحيد. كانت كلمة مرحلي تربك تفكيري، فما كنت أسمعه عن تحرير فلسطين من النهر إلى البحر اختفى وأصبحت أسمع بالسلام العادل والشامل أو الحل المرحلي، وبقي ما لاحظته في طفولتي من قهر وظلم مستمرين على الفلسطينيين ولا هم بأي كلمات وصف الحل بها وعلى أي محطة راديو. وما بدا بديهياً لي أن لب القضية هي حرب جيوش كان أمراً انصرف عنه تفكير الكبار الذين كنت أسمعهم، ولطالما كان الكبار مُرْبَكين أمامي ومُرْبِكين لي.
أعترف أن الإرباك كان ينسحب على الأطفال الذين يبدأون بالتحول إلى كبار، ففي أثناء دراستي الجامعية ونقاشي مع أحد الأصدقاء الفلسطينيين المدافعين عن اتفاق أوسلو أخبرني ما وجدته وقتها سراً من عالم الكبار، حيث قال اتفاق أوسلو خطأ لا بد منه، واستطيع أن أخبركم وبصدق أنني إلى وقتنا هذا وعمري 43 عاماً ما زلت طفلاً بما فيه الكفاية لئلا أفهم هذا التوصيف إلا كشكل من عدوى إرباك الكبار فالقهر والموت ما زالا مستمرين رغم السر الخطير لصديقي.
استمتعتُ بسرٍ في طفولتي، هو أنّه ليس عليك إلا أن تسأل فلسطينياً أيّاً كان عمره: من أي مدينة أو قرية أنت؟ حتى تراه قد تحول إلى طفلٍ وهو يخبرك، ومن دون أي إرباك، عن مدينته وموقع بيته فيها وطبيعة أزقتها وجيرانه من العائلات وسكان القرية المحاذية لهم وعائلاتها، وربما طرفةٌ عن مدينته وسكانها كأنه غادرها البارحة، وتأكد، بعد ذلك أنك كسبت صديقاً أبدياً. تعلمت عندما كبرت أن للقهر ذاكرة تتنفس.
كبرت، ولم تبقَ معادلتي لفهم فلسطين بالسذاجة أعلاه، فقد دخلت قسم التاريخ في جامعة دمشق، وفضح أمامي كل التاريخ الذي كان الكبار يصمتون عنه ويرتبكون أمامه، وبالتأكيد ليس بفضل كتبي الجامعية، فهي وفي كل سنواتها والعصور التي تتحدث عنها معقمة ونزيهة من الأهواء ومخصية من العواطف والأغراض، وتتناول أخبار الشعوب وأحداث الزمن بقفازات ناصعة البياض.
كبرت، ولم أكن ساذجاً بما فيه الكفاية كي أعتقد أن الاشتراك في اللغة والدين يجعل منا أمة واحدة وإلا كنت سأصدق أن العدو يشكل أمة، وكنت أكثر نضجاً كي أعتقد أن صراعاً أو مساواة طبقيةً ما يمكن أن تحل مشكلة قومية أو اجتماعية أو أخلاقية.
كبرت وعرفت أن نكبة فلسطين جزء من مصيبة بدأت مع ما يدعى المسألة السورية مع نهاية حقبة الاحتلال العثماني. تفتحت أمامي فصول من الأحزان المريرة لمشرق مغلوبٍ على أمره وكوارثه التي تتراكم تحت طبقات كثيفة من القهر المتوالي لإرادته في الحياة ومصالحه إلى أن أضاع السوريون أنفسهم وواقعهم بين أحداث تلك الطبقات المتراكمة. ففرنسا وبريطانيا اللتان شجعتا السوريين على الثورة على العثمانيين ووعدتهما بالحكم الذاتي، اتفقتا سراً فيما بينهما على تقاسم نفوذهما على أرض المشرق في اتفاقية تدعى سايكس بيكو ضمن قطاعات لا يخفى على النبيه معانيها الطائفية والجيوسياسية. بل إن وزير خارجية إحدى الدولتين وجد “المونة” لذاته كي يعطي أرضاً لا يعيش عليها حضرته لفئة دينية لا تعيش على هذه الأرض. نعم لفئة دينية! فتكتمل سخرية أن الدولتين اللتين اخترعتا فكرة الانتداب بحجة أننا لسنا شعباً واحداً بل طوائف وإثنيات يجب ان تنتدبنا لحمايتنا من بعضنا بعضا قد أضافتا إلينا شعباً جديداً!
كانت خاتمة الدولة الوليدة التي تنفست الحرية عدةَ أشهر وقررت أنها أمة مستقلة وتريد تعاوناً مع العراق (الذي كان رجاله جزءاً من تلك الثورة) في نار معركة ميسلون 1920م. لتبدأ فصول قصة المسألة السورية من تقطّع أوصالها الاجتماعية ووحدة حياتها الاقتصادية.
سبق وترافق مع هزيمة ميسلون وتلاها ثورات خطيرة في العراق والساحل السوري قمعت من بريطانيا وفرنسا بالحديد والنار، والمثير للسخرية أن كل دولة كانت تعتقد أن الآخرى هي من يحرك الثورات فيها، ففرنسا خلف ثورات السوريين في فلسطين والإنكليز خلف الثورة السورية الكبرى وهكذا.
كان استقلال دول المشرق غريب الهيئة، فهو لم يمنح بفعل غلبة على محتل، بل منح بضغوط الإنكليز الذين يحتلون فلسطين والعراق ويؤسسون مملكة في الأردن على فرنسا التي تحتل الشام ولبنان. هو استقلال منح بمعاهدات كرست الحدود بين كيانات المشرق التي قسمتها ورقة سايكس بيكو بينما كان وعد بلفور المسمار لتثبيت تلك الورقة على خشب تاريخ مظلم قادم.
ابتليت كيانات المشرق العربي برجال من السياسيين الذين تلقوا ثقافة تركية من عصر خانع تجلى إبداعهم في مساومات محلية عائلية أو قبائلية أو طائفية، ثم ابتليت كيانات المشرق برجاله العسكريين المتحمسين بفورات نفسية غير بريئة الدوافع والطموحة لمغامرات فارغة تتالت على شكل انقلابات وانقلابات مضادة، كانت -على الرغم من جميع شعاراتها- محركاتها ذات الدول التي منحت هذه الكيانات الاستقلال أو الجيران الأقرباء (مصر والسعودية) المتحركين برغبات تلك الدول.
إن تاريخ المشرق العربي حافلٌ بسخرية مريرة، فلا تشابه النظامان الملكيان في العراق والأردن اللذان يعودان إلى أسرة هاشمية واحدة، ولا الحزبان العقائديان الحاكمان البعث السوري والبعث العراقي استطاعا ابتكار أي شكل من أشكال التعاون أو التنسيق بين جوانب حياة كيانات هذا المشرق.
وإذا كنتم من المهتمين بالجوانب الساخرة من تاريخ هذا المشرق فقد كانت أدبيات المشرق السياسية لأحزابه، على امتداد زمن طويل، تصف معاهدة سايكس وبيكو أنها مؤامرة لتقسيم الأمة العربية، ولكن بعد احتلال العراق بالتحديد بدأت الفكرة التي تقول أن معاهدة سايكس بيكو مؤامرة لتقسيم العالم الإسلامي تظهر في الأدبيات السياسية. المبكي بالموضوع أن ذات الأدبيات السياسية كانت تصف مشروع الهلال الخصيب بأنه مشروع استعماري! وهذا يوصلنا إلى أكثر أسرار المشرق ظلمة وهي تلك تتعلق باسمه فهو تارة يدعى المشرق العربي وتارة يدعى الهلال الخصيب أو الشرق الأدنى أو الشرق الأوسط (بشكل ما) وقد ابتكر أحدهم مصطلح سوريا الكبرى ليماثل بها بلاد الشام بالمقابل من بلاد الرافدين أي العراق ولم ينل هذا المصطلح التوفيق كما لم ينله مصطلح بسيط وهو سوريا بحدودها الطبيعية وهي التي قسمتها معاهدة سايكس بيكو، فيكفي أن تقوله لتجد المعترضين والمشككين والمحتجين.
كان من المنطقي أن كيانات المشرق العربي التي لم تستطع أن تصوغ علاقات طبيعية بينها لتجسد مصالح رقي شعوبها، أن لا تستطيع أيضاً أن تتفق على سياسة تخص القسم الأكثر حراجاَ لامتدادها الجغرافي وهو فلسطين أو ما أطلق عليه في بيانات ثورة 1936م في فلسطين (سوريا الجنوبية). فالتوتر والنوايا المبطنة والاستغلال والاستقواء بالخارج كان تاريخ العلاقة البينية لهذا المشرق. كما لم تستطع كيانات المشرق العربي، بغض النظر عن طبيعة أنظمتها السياسية أو العقائدية، أن تضع في دساتيرها أي مادة مشتركة تنادي بحقوقها في أرض فلسطين أو تكريس صيغ متشابهة للتعامل مع اللاجئ الفلسطيني في أراضيها مما يدل على نجاح مخطط سايكس بيكو في تقسيم قضايا حياة المشرق والتعامل معها بالمفرق.
ويا للسخرية زمنٍ مريرٍ أيها القارئ كان أبناء المشرق يعتبرون المسألة الفلسطينية قضية تخص العرب أو تخص المسلمين وتطالبهم بالوقوف إلى جانبها وهم أنفسهم، أي أبناء المشرق، يستنكرون في ما بعد عندما يقوم أحد الأنظمة الإسلامية أو العربية بمقايضة موقفه في المسألة الفلسطينية لحساب مصالحه الخاصة الاقتصادية أو السياسية. فالعبرة من أن ما يعتبره أبناء المشرق حرباً تخص خطراً وجودياً ولا يعتبره الآخرون بالضرورة خطراً وجودياً. رغم بساطة هذه العبرة فإنها بقيت مبهمة. فعندما نطلب مساعدة الآخرين علينا أن نحدد لهم الجوانب التي يجب فيها تقديم العون لنا بالخطة التي نضعها نحن، لأن حقوق تدخل الآخرين في المسألة الفلسطينة لا تشبه حقوق أبناء المشرق في أرضهم القومية. وللأسف ما زال هذا الزمن المرير مستمراً على لسان السذج الذين يسألون أين المسلمون أو العرب أو الحقوق الدولية؟
جاءت الحرب على غزة لتبعث أوراق المشرق برمتها، فثمة مقاومة في غزة ومقاومة في لبنان ومقاومة في العراق منخرطون في ضرب العدو بشكل مباشر أو ما يعتبرونه المدير الحقيقي للمعركة الأمريكي، والمفاجأة انخرط اليمن في هذه الحرب واضعاً مصيره الخاص مع مصائر المقاومين في العقاب وتحمل المسؤولية، ورغم سكون الجبهة السورية النسبي لكنها تتلقى العقاب بقصف مطاراتها ونقاطها العسكرية منذ ما قبل عملية الطوفان إلى وقتنا هذا.
لا يثير دخول دول المشرق في المعركة واليمن معهم أي استغرب، فالذي يجمعهم تاريخ طويل من القهر والتدمير، فجميع هذه الدول “الجمهورية” دخل أبناؤها في العقود الأخيرة لعبة تغيير الأنظمة الدامية رغم اختلاف الحجج الكامنة خلف فكرة تغيير هذه الأنظمة، وجميع هذه الدول حاربت تنظيم داعش الذي أمعن بالموت في مكوناتها الاجتماعية والديمغرافيه، وجميع هذه الدول عانت من الدور السيىء للدول النفطية العربية في التدخل بشؤونها وتقرير مصيرها الداخلي، وبالتالي جميع هذه الدول عانت وتعاني أمام أسئلة إعادة الإعمار لنتائج الحروب القائمة فيها في العقود الأخيرة. ويمكن القول بصراحة أن الدمار والدم هما اللذان وضعا هذه الكيانات أمام حرب غزة وهي نتيجة منطقية لواقع الفناء الذي كانت تعيشه هذه الكيانات.
إن السؤال الذي يضج به إعلامنا العربي وننتشي فرحاً به عن اليوم التالي للعدو في الحرب؟ وهو يحياها مرتجلاً، علينا نحن أبناء المشرق العربي أن نطرحه على أنفسنا وأن يقض مضجعنا، فمستقبلنا أيضاً كمشرق عربي واجه وحدة مصيره في النصر والهزيمة لزمن طويل متفرقاً ويواجهه اليوم بالجملة، ماذا عن اليوم أو العام أو العقد التالي للحرب لهذا المشرق؟ فالبيئة الطبيعية التي نحيا عليها بثرواتها وخصوبتها حملت علينا كوارث واحدة وفلسطين هي أكثرها خطرا داهماً.
أخجل أن يكون مقالي هذا دعوة لأبناء أمتي المشرقية السورية للتحرك في الضغط على أنظمتنا ودعوة للتفكير في مساؤى ثوابتنا في العقود الأخيرة ولإنتاج واقع حياتي تجاه وحدة وجودنا ومصالحنا القومية لتكون هماً يومياً يزيل همومنا اليومية الكيانية البائسة التي كنا نحياها عقوداً طويلة.
حسبي أنني أحد أبناء هذا المشرق العربي ومازالت خطتي عندما كنت طفلاً لتحرير فلسطين في قلبي وقد دخلت عقلي وكبرت معي. لقد انتهى الارتباك الذي بدأت أحياه عندما دخلت في عالم الرجولة، وكبرتُ في اللحظة التي اكتشفت أنني السوري والذي يحيا في سوريا فلسطيني وعراقي وأردني ولبناني رغماً عني وعن سايكس بيكو.