عيسى بن مريم-تيسير كوى
قيل لي أنني لن أجد أفضل من الصبي عيسى بن مريم لخدمتي في البلدة التي أرسلتني إليها إحدى الدوائر الرسمية تنفيذاً لعقد معها يتناول تقديم خدمات اجتماعية. وقيل لي أن عيسى يتردد يومياً على ساحة تؤدي إلى مدخل جامع البلدة حيث أقام “مكتباً” يدير منه تقديم خدماته لمن يطلبها، شرط أن يتأدب الطالب ويتلطف بطلبه وأن يناديه باسمه المفضل أي عيسى بن مريم.
في صباح اليوم التالي قصدت جامع البلدة الرئيسي، ووجدت “مكتب” عيسى بسهولة إذ كان عبارة عن جانب مكشوف من المصطبة التي يطأها المصلون فيما هم يهمون بالدخول الى رحاب الجامع. سألت عن عيسى، فأشار أحدهم إلى شاب لا يمكن أن يكون قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره، متوسط القامة مربوع شعره أسود أشعث وعيناه سوداوتان وذقنه دقيق تعلوه ابتسامة لا يدري الناظر إليها ما إذا كانت مرحبة أم ساخرة، ويتدلى من جيده شريط جلدي ينتهي بصليب بسيط من خشب الزيتون.
سلمت عليه، فقال مرحبا إنه بالفعل عيسى بن مريم. ذكرت له ما سمعته عنه، فردّ باسماً أنه في الخدمة وما عليّ إلا أن أخبره بما أحتاج إليه.
وما كاد يتم كلامه حتى التفت إلى صبي آخر في مثل عمره، وكأنه يستأنف ما كان موضوع تواصل حاد وتلاسن بينهما. وانفجر شتائم وسباباً متناولأ أسرة هذا الصبي كلها بمن فيها والدته. وانقلب وجه عيسى من الغضب وأصبح بلون شقائق النعمان، وأردف موجهاً كلامه إلى الصبي: “قلت لك أكثر من مرة إن طريقتك في معالجة هذا الأمر خاطئة”. (لم يذكر الأمر، بيد أنه كان من البين أن الصبي يعرفه).
وبعد التوبيخ والتقريع والشتائم التي هي من النوع الثقيل، هجم عيسى بن مريم على “صديقه” وكأنه يريد ضربه. تدخلت في الأمر وقلت ما وجدته مناسباً في موقعة من هذا القبيل. هدأ عيسى والتفت إليّ وقال: “لا تواخدني يا أستاذ بس بدي سويه زلمة غصبن عنو”! لكن هدوء عيسى لم يكن نهاية القصة إذ بقي “يزمجر” ويزبد ويتوعد بصوت خفيض.
مرت الأيام رتيبة لا جديد فيها، يزورني عيسى مرة أو مرتين في الأسبوع ويقدم لي باسماً باشاً ما أطلبه منه من خدمات. وصرنا مع مرور الوقت صديقين نتكاشف قصص حياتينا، ومنها أن الصديق الذي رأيت عيسى غاضباً حانقاً منه وعليه ما هو إلا مصطفى بن مريم، لكنه ليس شقيقه، بل أن والدي عيسى ومصطفى أستشهدا معاً بينما كانا يدفعان شر العدوان اليهودي على قريتهما الصغيرة في فلسطين أيام “النكبة الأولى” عام 1948. وأن من الصدف غير النادرة أن مريم هو اسم والدتي عيسى ومصطفى، ما كان عاملاً آخر من عوامل الود والصداقة بل الأخوة بينهما.
وجاء يوم عاصف ماطر على بلدتنا مؤذناً ببدء موسم السيول الجارفة في الوادي الذي يقع عند أطراف البلدة. وفي نهاية ذلك اليوم جاء من يخبرني والدموع تنهمر من عينيه أن عيسى بن مريم قضى وهو يجهد لإنقاذ أم مصطفى من سيل عارم جارف حمل معه إلى أسفل الوادي طيناً كثيفاً غزيراً وأكثر من جثمان، لكنه أبقى على أم مصطفى.
قالت أم سلامة صاحبة المنزل الذي كنت أسكن في غرفة منه، والدموع تنسال من عينيها: “لم يكن يحمل زوجي على الاعتذار وطلب السماح والغفران مني بعد أن يضربني إن أخطأت أو سهوت أو تأخرت في إعداد طعامه إلا عيسى”. وتابعت باكية: “الله يرحمه… سأفتقده كثيراً”!
______________________
(*) الدكتور تيسير كوى، إختصاصي في علم النفس التربوي من جامعة لندن عام 1965. باحث تربوي ونفسي في معهد البحوث البريطاني من عام 1965 الى عام 1968. عمل مرشداً نفسياً وتربوياً للأطفال والأحداث من عام 1968 إلى عام 1973. درّس علم النفس في إحدى جامعات مدينة مانشستر البريطانية لستة عشر عاماً. له