هل صحيح أن قرار وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات على فالح الفياض رئيس هيئة “الحشد الشعبي” في العراق جاء رداً على تصريحات أدلى بها الفياض قبل يومين من إعلان القرار في واشنطن، وكرّر فيها المطالبة بمغادرة “قوات الاحتلال الأميركي” بأسرع وقت ممكن؟ ومن جهة أخرى، هل صحيح أيضاً أن واشنطن اتخذت تلك الخطوة الحساسة على مستوى الحكومة في بغداد، بحجة أن الفياض كان عنصراً فاعلاً في “خلية أزمة” هدفها قمع التحركات الشعبية التي اندلعت في عدد من المدن العراقية سنة 2019 للمطالبة بالإصلاح ومكافحة الفساد… إلخ؟
نحن نعتقد بأن المزاعم الأميركية هي مجرد ذر للرماد في عيون الإعلام والمجتمع الدولي، هدفها تبرير صدور مثل هذا القرار في وقت دقيق للغاية. ونرى كذلك أن دعوة الفياض إلى رحيل “الاحتلال الأميركي” ليست جديدة بحيث تستدعي عقاباً سريعاً من واشنطن. وعلى الرغم من ذلك، يجب عدم التقليل من أهمية العوامل العراقية الداخلية وتعقيداتها الإقليمية. فهذه العوامل تُملي على الإدارة الأميركية سياسات معينة، خصوصاً ما يتعلق منها بدور الأطراف العراقية المتحالفة مع إيران، و”الحشد الشعبي” يحتل مكانة بارزة في هذا السياق.
ومع أننا نأخذ في الاعتبار عشوائية مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يدخل أيامه الأخيرة في البيت الأبيض معزولاً ومنبوذاً ومعرضاً لإجراءات العزل راهناً، واحتمال المحاسبة الجرمية بعد زوال الحصانة الرئاسية عنه ابتداء من 21 الشهر الحالي… مع ذلك فإن العقوبات على الفياض ليست قراراً متسرعاً من رئيس متهور، بل هي خطوة محسوبة العواقب، تماماً مثل جريمة اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس. وما كانت هذه الضربة على الأرض العراقية سوى رسالة أميركية متعددة الاتجاهات!
من حيث المبدأ لا يمكن الفصل بين العقوبات الأميركية على الفياض من ناحية، والإجراءات المماثلة ضد أطراف عراقية أخرى من ناحية ثانية. وفي المقياس نفسه ننظر إلى العقوبات المتخذة بحق سورية ولبنان وإيران وبعض الفصائل الفلسطينية. ذلك أن استهداف الفياض بوصفه رئيس هيئة “الحشد الشعبي” يتضمن حيثيات عراقية محلية، لكنها بشكل أساسي مجرد نتاج عرضي لمخطط استراتيجي أميركي متكامل. وإذا كان مقدراً لذلك المخطط أن يتحقق، فالأمر يتطلب إزالة العقبات التي تعترض سبيله: أي محور المقاومة على وجه التحديد.
إن المتابعة المتأنية للتحركات الأميركية في المنطقة، على الأقل منذ غزو العراق واحتلاله سنة 2003، تكشف بكل وضوح عن طبيعة المسار الصعب والمعقد الذي حُشرت فيه أمتنا وعالمها العربي، وما زلنا نتخبط في خضمه حتى اللحظة. وإذا عدنا إلى السنوات الثلاث الأولى من الألفية الجديدة، واسترجعنا بعض المشاريع والأفكار والمواقف التي تم الترويج لها آنذاك، لأمكننا تبيان العناصر التالية في تعامل واشنطن مع منطقتنا:
أولاً ـ التدخل العسكري المباشر مع ترسيخ الاحتلال. (أفغانستان، العراق، سورية).
ثانياً ـ طرح مشاريع جديدة للمنطقة بحجة تعزيز الديموقراطية ومحاربة الفساد… إلخ: فكرة “الشرق الأوسط الكبير” (الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الإبن)، ثم “الشرق الأوسط الجديد” (وزيرة الخارجية كونداليزا رايس سنة 2006).
ثالثاً ـ العمل على فرض “الحل الإسرائيلي” على الشعب الفلسطيني، تمهيداً لإقامة “السلم الإسرائيلي” مع دول عربية تدور في فلك النفوذ الأميركي.
رابعاً ـ السعي إلى إنشاء سوق اقتصادية واسعة وحرة في الشرق الأوسط، تهيمن عليها “إسرائيل” كونها تملك بنية تحتية متطورة مدعومة دائماً من قبل الغرب الأميركي ـ الأوروبي.
ومن المناسب هنا أن نعيد التذكير بتصريحات كونداليزا رايس أثناء معركة المقاومة في مواجهة العدوان الصهيوني على لبنان (تموز 2006). فبعد اجتماعها برئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة، ولقاءاتها مع سياسيين لبنانيين مرتبطين بالمخطط الأميركي، قالت بكل وقاحة رداً على سؤال صحافي عن استمرار القصف الإسرائيلي الوحشي: “هذه أوجاع الطلق لولادة الشرق الأوسط الجديد”! لقد راهنت واشنطن يومها على هزيمة المقاومة، ووقفت معها سراً وعلناً أطراف محلية وإقليمية معروفة. غير أن النتائج الميدانية أحبطتهم جميعاً، فتم إيداع مشروع “الشرق الأوسط الكبير أو الجديد” في ثلاجة الانتظار ريثما تسنح الفرصة المناسبة.
ولم يشذ الرئيس الأميركي الديموقراطي باراك أوباما عن هذه السياسة. فقد كشف في مذكراته “الأرض الموعودة” الصادرة سنة 2020 تفاصيل زيارته إلى القاهرة سنة 2009 حيث ألقى خطاباً حددّ فيه طبيعة العلاقات مع العالمين العربي والإسلامي. ونكتفي من مروياته بالعبارة التالية: “كان بإمكاني حينها تخيل بداية شرق أوسط جديد”! وبعد سنتين فقط، كانت بداية “الربيع العربي” من تونس!
ونعود في الختام إلى العقوبات الأميركية على فالح الفياض. فهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. ويخطئ من ينظر إليها بالعين المحلية فقط. ففي موازاة الهرولة “التطبيعية” التي تضغط واشنطن لترسيخها، يجري ضغط باتجاه آخر يستهدف المتمسكين بالحقوق القومية الثابتة. وفي مثل هذه الحالة لا تكفي بيانات الإدانة والاستنكار. ذلك أن الحصار الأميركي ـ الأوروبي يريد تجويع الشعب كخطوة لإسقاط محور المقاومة. والخطة المعاكسة لا تكون فقط من خلال حماية “المحور” مهما كان الثمن، وإنما الانتصار يتحقق بتمكين الشعب وتفعيل طاقاته وصيانة كرامته… لأنه هو وحده ضمانة صمود “محور المقاومة” مهما اشتدت العقوبات.