لا أحد يمكنه أن يتجاهل مظاهر “كيمياء المودة” بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي كما تبدت أمام وسائل الإعلام العالمية خلال زيارة الأول إلى طوكيو قبل أيام. فقد بالغ الزعيمان الحليفان في إبراز تلك “الكيمياء” بوصفها رسالة سياسية إلى المشاركين في اجتماعات قمة (آبيك) التي استضافتها فييتنام، على الرغم من وجود تباينات كبيرة في مواقف الدول المشاركة خصوصاً في ما يمس بالعلاقات التجارية العالمية.
إن أزمة البرنامج النووي والصاروخي في كوريا الشمالية ليست وحدها العامل الأساسي في نشوء “كيمياء المودة”، والتي يسعى رئيس الوزراء الياباني إلى توظيفها على صعيد السياسة الداخلية اليابانية. فإلى جانب الوضع المعقد في شبه الجزيرة الكورية، هناك مخططات أخرى تشكل جوهر العلاقات المستقبلية بين واشنطن وطوكيو. علماً بأن آبي نجح في الحصول على أغلبية مريحة في الانتخابات التشريعية التي جرت في أواخر تشرين الأول الماضي، بعد أن استغل إلى أبعد الحدود “التهديدات” الكورية الشمالية، داعياً إلى “التحرك بحزم” لمواجهتها.
في تلك الانتخابات التي دُعي إليها الناخبون قبل سنة من الموعد المقرر، حصل التحالف المكوّن من الحزب الليبرالي الديموقراطي (بقيادة آبي) وحزب كوميتو (يمين الوسط) على 313 مقعداً في مجلس النواب المؤلف من 465 مقعداً، أي أغلبية الثلثين. وهي نسبة تتيح للحكومة أن تدعو إلى استفتاء عام للوقوف على رأي الشعب الياباني في مسألة تعديل الدستور… وهنا بيت القصيد بالنسبة إلى آبي وأصدقائه في الولايات المتحدة من ضمن خطة إعادة صياغة الدور الاستراتيجي الحيوي لليابان في سياق التنافس الدولي في جنوب شرق آسيا.
ولمزيد من الإيضاح، سنعود إلى سنة 1947 عندما فرضت الولايات المتحدة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية “دستوراً سلمياً” على اليابان المنهزمة بعد قنبلتي هيروشيما وناكازاكي النوويتين. فالمادة التاسعة من ذلك الدستور تنص على أن تتخلى اليابان عن الحرب “إلى الأبد”! ومع أن غالبية الشعب الياباني، على مدى أكثر من سبعين سنة، ما زالت مقتنعة بهذه الصيغة الدستورية، إلا أن آبي يعتقد بأن الظروف باتت مؤاتية الآن لإجراء تعديل دستوري جذري، وبالتحديد المادة التاسعة المذكورة أعلاه.
رئيس الوزراء الياباني يرى أن أوضاع بلاده السياسية والمتغيرات الدولية الراهنة ستساعده في تحقيق “طموحه الدستوري” لجهة عسكرة اليابان بحدود العام 2020 إذا ما تقررت الدعوة إلى الاستفتاء. فمن ناحية أولى، تجد المعارضة اليابانية نفسها مشرذمة وغير متفقة على موقف من التعديل الدستوري. ومن ناحية ثانية، يركز التحالف اليميني الحاكم على المخاطر النووية التي تشكلها كوريا الشمالية بهدف إثارة المخاوف الوجودية لدى الشعب الياباني الذي كان الضحية الأولى لمجزرة نووية ارتكبتها أميركا. ومن ناحية ثالثة، لا تترك الحكومة اليابانية مناسبة إلا وتثير فيها تحديات صعود القوة الصينية العسكرية وهيمنتها في جنوب شرق بحر الصين مع ما يعنيه ذلك من مواجهة مباشرة لنفوذ اليابان الإقتصادي على الأقل.
ومن الجدير بالذكر هنا أن نزعة “العسكرة” في اليابان ليست جديدة، لكنها كانت تُحبط دائماً بعاملين مهمين: أولاً، الرفض الشعبي الداخلي إنطلاقاً من الثمن الباهظ الذي دفعه اليابانيون في الحرب. وثانياً، تحفّظ الدول الكبرى خصوصاً الولايات المتحدة على أية محاولة لبناء جيش ياباني يتجاوز حدود القدرة على الدفاع الذاتي طالما أن القواعد العسكرية الأميركية منتشرة على الأراضي اليابانية. وإذا كان آبي يرى أن الظروف تتيح له الآن البدء في حملة واسعة للتأثير على الرأي العام الذي يتخذ موقفاً سلبياً بصورة عامة، فإن الولايات المتحدة (خصوصاً بقيادة ترامب) ميّالة إلى دعم التعديل الدستوري المؤدي إلى مزيد من عسكرة اليابان.
التغيير الأميركي ليس من بنات أفكار الإدارة الجديدة في واشنطن، وإنما هو مرتبط بالرؤية الاستراتيجية الأميركية التي تقررت قبل سنوات، ونقلت مركز الاهتمام إلى جنوب شرق آسيا، جاعلة من الصين الهدف الرئيسي للمواجهة في المرحلة المقبلة. وهذه الاستراتيجية تتطلب أن تكون اليابان قوية وفاعلة وجاهزة لكل الاحتمالات. وقد تأكدت مؤشرات هذا التغيير في تشريع برلماني أقر سنة 2015 يتيح لليابان ممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي أو مساعدة الحلفاء في حال تعرضهم لأي اعتداء. يومها أصرّت طوكيو على أن التشريع الجديد لا يناقض المادة التاسعة من الدستور، وإنما هو مجرد “تأويل دستوري” يوسّع مجال الحراك الياباني الخارجي في مرحلة التغيرات العاصفة في موازين القوى العالمية.
من المؤكد أن اليابان حصلت على ضوء أخضر أميركي نحو مزيد من “العسكرة”، مع ما يرافق ذلك من مشاركة تدريجية في مهمات خارجية ستكون في المرحلة الأولى على شكل “قوات حفظ سلام” أو “عمليات إغاثة وإنقاذ” وما شابه ذلك. لكن هذا لا يلغي الطابع العسكري، وإنما يعطيه مشروعية محلية ودولية كونه يرتدي قناع “التدخل الإنساني”. فاليابان المتطورة صناعياً وتقنياً، والمزدهرة اقتصادياً، قادرة على الانتقال إلى مصاف القوى العسكرية الكبرى (عدد سكانها يفوق 120 مليوناً) بمجرد تغيّر المزاج الشعبي العام بعد أن تكون قد ضمنت التغطية الأميركية المطلوبة.
والهدف الأساسي هو الصين!
إن الولايات المتحدة، في سياق إندفاعتها الإستراتيجية في المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا، عاكفة على حشد الحلفاء والشركاء والوكلاء من كوريا الجنوبية إلى تايوان إلى الفيليبين إلى أندونيسيا… وصولاً إلى أستراليا. ولا شك في أن اليابان ستكون واسطة العقد في هذا التجمع بعد أن تكون قد عدّلت دستورها وعسكرة مؤسساتها.
ومن المتوقع أن يكون نجاح النموذج الياباني مثالاً يحتذى في أوروبا (ألمانيا تحديداً)، وفي الشرق الأدنى حيث يتم العمل بهدوء على قيام تحالف بين شركاء الولايات المتحدة ووكلائها!