عاد الهدوء الحذر ليسود المناطق الحدودية اللبنانية مع فلسطين المحتلة بعد أن نفذ مقاتلو “حزب الله” ضربة انتقامية ضد أهداف إسرائيلية محددة، تماماً كما تعهد السيد حسن نصرالله الأمين العام للحزب. ومع أن إسرائيل ردت بقصف مدفعي استهدف خراج بلدة مارون الراس الحدودية، إلا أنه كان من الواضح وجود رغبة لدى الطرفين بعدم التصعيد غير المحسوب، لئلا تدخل المنطقة في مواجهة قد تكون معروفة البداية… لكن أحداً لا يدري كيف يمكن أن تنتهي. وهذا يعني أن مبدأ الردع ما زال سارياً حتى الآن.
جاءت عملية “حزب الله” بمثابة رد على اعتدائين إسرائيليين متزامنين: الأول استهدف منزلاً في ضواحي دمشق يستخدمه عناصر من “حزب الله”. والثاني محاولة هجوم بطائرتين مسيّرتين على هدف غير معلوم في منطقة الضاحية الجنوبية. ولم يكن الاعتداء على منزل دمشق الأول من نوعه في الشام، إذ سبق للعدو الإسرائيلي أن نفذ عشرات الاعتداءات ضد مراكز “حزب الله” وقواعده في أنحاء مختلفة من الأراضي السورية منذ اندلاع الأزمة سنة 2011. أما الاعتداء الثاني فهو الأول من نوعه ضد الأراضي اللبنانية (وبالتحديد مناطق تواجد “حزب الله”) منذ حرب تموز سنة 2006. ولذلك استحق تعاملاً مختلفاً، وأدى إلى وضع خطوط حمر جديدة للمواجهة مع إسرائيل.
لكن لماذا أقدمت القيادة الإسرائيلية على تحريك الجبهة مع لبنان في هذا الوقت بالذات، خصوصاً في ظل التوتر الإقليمي الدولي في الخليج؟
قد يقول أحدهم إن لذلك القرار علاقة بالوضع الداخلي الإسرائيلي حيث يواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تحقيقات قضائية تتعلق بمجموعة من الفضائح، إضافة إلى معركة الانتخابات العامة. ربما كان هذا الرأي صحيحاً جزئياً إذا ما أخذنا في الاعتبار الاعتداءات على الساحة الشامية. غير أن الاعتداء على لبنان مسألة أخرى، لأن أي عدوان هناك سيستدعي رداً قوياً يطال الداخل الإسرائيلي يمكن أن يؤثر سلباً على حظوظ نتنياهو الانتخابية.
إذا استثنينا ما يتردد عن أن الطائرتين المسيّرتين كانتا تترصدان “هدفاً مهماً” في معقل “حزب الله” في الضاحية الجنوبية، فإن قرار المضي قدماً في هذه العملية لا شك وأنه حظي بتغطية حكومية على أرفع المستويات. ولا شك أيضاً في أن القيادة الإسرائيلية تنسق ـ في العادة ـ مع الحليف الأميركي في مثل هذه العمليات نظراً إلى أن النتائج تنعكس على المخططات الأميركية في المنطقة. وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن العدوان الإسرائيلي على لبنان يحمل أبعاداً أكثر أهمية مما تكشف حتى الآن.
قبل الاعتدائين على المنزل في دمشق والضاحية الجنوبية، قرأنا وسمعنا عن سلسلة اعتداءات “مجهولة” المصدر استهدفت مراكز “الحشد الشعبي” ومقراته في العراق. يومها قيل إن بقايا تنظيم “داعش” الإرهابي هي المسؤولة، في حين تناهت أصوات خجولة تشير إلى دور أميركي معيّن. أما الأوساط الرسمية فقد حاولت التعمية الكاملة بإعادة السبب إلى حوادث عرضية أدت إلى اشتعال حرائق وتفجيرات لا يتحمل مسؤوليتها أحد! ويبدو أنه حتى لا يحدث أي إحراج للأميركيين، وكي لا يتصدع الصف الحكومي العراقي… إرتأى جميع المعنيين المشاركة في التغطية على تلك الاعتداءات.
لكن التقارير الآتية من أميركا سرعان ما كشفت المستور: الاعتداءات على العراق نفذتها الطائرات الإسرائيلية، بحجة ضرب حلفاء إيران في المنطقة ومنعهم من حيازة الأسلحة المتطورة وبالتحديد الصواريخ على غرار ما حدث مع الحوثيين في اليمن. طبعاً هذا الكشف أدى إلى إحراج الحكومة العراقية في علاقتها مع التواجد العسكري الأميركي، إذ هل يُعقل أن يتم العدوان من دون معرفة القيادة الأميركية العسكرية؟ ولماذا عجزت الدفاعات العراقية والأميركية عن منع تكرار الاعتداءات؟
وبغض النظر عن الدعوات العراقية اللاحقة بضرورة الحصول على دفاعات جوية لمراكز “الحشد الشعبي” ومقراته، فإن خارطة المواجهة باتت واضحة للعيان. وما العدوان على الضاحية الجنوبية ـ مع كل الغموض المحيط به حتى الآن ـ سوى جزء من استراتيجية إسرائيلية ـ أميركية جديدة في إطار الاستعداد للمواجهة الشاملة مع “محور المقاومة” عندما يحين الوقت المناسب. إن واشنطن وتل أبيب وعواصم عربية مرتبطة بهما تدرك أن أية معركة مع إيران تعني معركة مباشرة مع حلفاء إيران أيضاً. وفي هذه الحالة يكون الخيار: إما الانتظار حتى تحين لحظة المواجهة الشاملة مع “محور المقاومة” دفعة واحدة، أو محاولة استفراد الحلفاء واحداً بعد الآخر بكل الأسلحة المتاحة.
ونحن نشهد منذ مدة مؤشرات إلى أن خيار الاستفراد بات مطروحاً بقوة، وعلى أصعدة سياسية واقتصادية وأمنية. فلم يكن مفاجئاً ما أعلنه مسؤول أميركي عن وجود مباحثات سياسية مع الحوثيين في اليمن بهدف إنهاء الحرب هناك. في الوقت نفسه يتعرض “الحشد الشعبي” لضغوط داخلية في العراق تتعلق بدوره وتمويله وعلاقته بأجهزة الدولة. وفي لبنان يواجه القطاع المصرفي حملة مقاطعة تقودها أميركا تستهدف البنية الاجتماعية لـ”حزب الله”. كل هذه التحركات تشكل جزءاً من الإستراتيجية الأميركية ـ الإسرائيلية للمواجهة المرتقبة في المنطقة. وفي هذا السياق الإستراتيجي علينا أن نقرأ الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على العراق ولبنان.
الرسالة وصلت، فكان الجواب إعادة تظهير لجهوزية الردع الفوري. لكن الأهم من الرسالة ومن الردع هو الاستعداد للحظةٍ حاسمةٍ، سياسية أو عسكرية، نراها قريبة جداً. فالعدو يدرك أن وحدة “الجبهة الشرقية” (هل تذكرون هذا الشعار الذي انتشر في التسعينات؟) هي مكمن الخطر على الداخل الإسرائيلي، لذلك نراه يستهدف مكوناتها واحداً بعد الآخر. وفي هذه الحالة، ونحن نأخذ في الاعتبار أبعاد الإستراتيجية الجديدة، سيكون من الضروري الانتقال من مرحلة “الردع الموضعي” إلى آفاق التنسيق الجذري بين تنظيمات “محور المقاومة” المختلفة في لبنان والشام والعراق وفلسطين (غزة).
قد لا يكون من المصلحة العليا الآن خوض معركة مفتوحة مع العدو. غير أننا مطالبون بأن نكون على أتم الاستعداد لتحويل أية معركة قادمة إلى مواجهة مفتوحة نتحكم نحن بمسارها، ويكون الثمن الذي يدفعه العدو أكبر من قدرته على الاحتمال. والسبيل الوحيد المتاح لنا هو التصدي للإستراتيجية العدوانية المتجددة باستراتيجية “الجبهة الشرقية” الداعمة لخيار المقاومة.