علي قطريب
وصل إيجار الغرفة الواحدة في منطقة باب توما بدمشق إلى أكثر من ثلاثمئة ألف ليرة سورية، يمكن أن يرتفع أو ينخفض قليلاً حسب مساحتها، أما في جرمانا، فالغرف المستقلة نادرة، لذا يكون على الطلاب استئجار منزل صغير بشكل مشترك، وهذا يرفع مبلغ الإيجار لأن صاحب المنزل لا يقبل أن يسكن فيه أكثر من مستأجر ويدفع كل منهم مبلغًأ صغيرًا! بالنسبة للسكن، تقول الأرقام إن دمشق من أغلى مدن العالم بالعقارات، رغم أن سكانها هم الأقل دخلاً في العالم، فراتب الموظف لا يتجاوز ثلاثين دولارًا، وهذا ما يشكل معاناة بالنسبة للطلاب القادمين من محافظات أخرى إلى دمشق من أجل الدراسة. صحيح أن هناك سكنًا جامعيًا في الجامعات الحكومية، لكنه يشهد مزاحمات هائلة ووساطات كبيرة بسبب قلة عدد الغرف مقارنة بعدد الطلاب، عدا عن تزاحم الطلاب بشكل كبير ضمن الغرفة الواحدة الأمر الذي يؤثر على دراستهم بسبب انعدام الجو المناسب. من ناحية ثانية، فإن بعض الجامعات الخاصة توفر السكن المحدود بأسعار خيالية أيضًا لا يمكن للطالب تكبدها. وإذا ما أضفنا الأسعار العالية لتلك الجامعات أثناء التسجيل كل سنة وخلال مسيرة الدراسة والحصول على الأوراق وإعداد المشاريع العملية، سنكتشف أن الطالب لن يكون بإمكانه تسديد كل ذلك إلا إذا اشتغل ساعات عمل طويلة أو كان من أصحاب الذوات من العائلات القادرة على تحمل تكاليف دراسته وسكنه ومواصلاته. طلاب الجامعات اليوم مشغولون بالبحث عن عمل أكثر من الدراسة، ولا يستغرب المتابع رؤية الطلاب يحملون أغراضهم في حقيبة صغيرة وعدة أكياس وهم يبحثون عن مكان للنوم! في هذا الواقع المزري، كيف يمكن للطالب أن يبدع ويتفوق ويحقق آماله والديه؟ بالطبع هناك معاناة كبيرة في اتجاهات أخرى منها المواصلات بين أماكن السكن ومقر الجامعة، فالمواصلات تتطلب مصروفًا مستقلاً نظرًا لبعد الأماكن التي يسكن فيها الطلاب بعيدًا عن مركز المدينة حيث الجامعات. نحاول في هذا التحقيق مقاربة معاناة الطلبة الذين هم نقطة الارتكاز في العمل القومي، وهم مستقبل البلد ومجموعة آماله وطموحاته وعقله الإبداعي. ماهي الظروف التي تحدق بهم وتمنعهم من القيام بدورهم كما يجب؟
تكاليف مشاريع التخرج والوظائف العملية
كاترين/ إعلام سنة رابعة
“باعتبار السنة الرابعة هي سنة تخرج، فنحن كطلاب، وجدنا أنفسنا مطالبين بعدة تقارير مصورة وإذاعية وبرنامج حواري. نظرًا للوضع المادي العام وبما أن غالبية الطلاب غير قادرين على شراء كاميرا ومايكروفون وغيرها من المستلزمات، فهم مضطّرون لاستئجار هذه المعدات مع كوادرها بأسعار خيالية. وهذا ما يضعنا أمام استغلال لرغبتنا بإنتاج عمل لائق ومميز. السوق واضح والأسعار موحدة والتي قد تصل إلى مليون ليرة في بعض الأحيان!
جامعتي تعتبر خاصة، أي أن أغلب سياستها مبنية على الضخ المستمر للأموال، فعدا عن أقساط الدراسة والكتب اللازمة للدراسة، لا يمكنني مناقشة أطروحة التخرج ولا حتى الحصول على شهادتي بدون دفع مبلغ كبير. الضغط المستمر من قبل المحاضرين على نوعية المشاريع والمبالغ الطائلة اللازم إيفاؤها تدفعنا كطلاب للعمل بعدة وظائف كي نستطيع استكمال تعليمنا مما يجعلنا عرضة للاستغلال في سوق العمل”.
مايا/ إعلام سنة رابعة:
الجامعات تفرض أسلوب حياة باهظ ومرهق على طلابها، العملية بأكملها مستنزفة للطاقة، بدئاً من المواصلات التي تفرض علينا الخروج قبل ساعة أو ساعتين لضمان الوصول على الميعاد إلى شراء الكتب والمحاضرات اللازمة، في جامعتي تم رفع أسعار المواد الورقية عدة أضعاف خلال سنة واحدة، على الرغم من أنها كانت مخزنة في المستودع منذ عدة سنوات وكأنهم يستغلوننا كتجار أزمات!
بحكم أنني أعيش مع عائلتي فأنا غير مضطرة للاستئجار، لكنني أعرف عدة أشخاص يعيشون في غرف ضيقة بلا أي منفذ للضوء، ويدفعون أسعارًا خيالية بحجة أنها قريبة من الحرم الجامعي.
كمية الضغط والاستغلال التي نخضع لها كطلاب تغيرنا نفسيًا. العلاقات الاجتماعية مع الزملاء تكون ذات طابع حذر خوفًا من التعرض للمزيد من الاستغلال.
ديمة/ حقوق سنة رابعة:
المماطلة التي يمارسها كادر الموظفين في الجامعة لا تطاق. أصغر المراجعات لشؤون الطلاب تحتاج إلى تفريغ نهار كامل تستهلكه المواصلات والانتظار الطويل في طوابير متعددة في سبيل الحصول على إجابة مختصرة وغير مفهومة. عدا عن القرارات السنوية التي تزيد لا تصب في مصلحة الطالب بل في مصلحة القسم المالي من الجامعة. الوضع المادي والقرارات الجامعية، تضطرنا إلى تفريغ وظيفة راتبها مخصص للمصروف الجامعي، وهي تضاف إلى مجموعة الضغوطات الحياتية. يمكنني القول إن الطلاب يهملون دراستهم في سبيل إيفاء الالتزامات المالية الجامعية.
شركات أم جامعات؟
سبأ/ هندسة عمارة سنة رابعة:
أشعر أنني أعمل لصالح شركة كبرى متنكرة برداء جامعي، الفرع الذي أدرسه هو الأكثر تكلفة بين بقية الأفرع، أستطيع القول بثقة أنني أنفقت على المشاريع والوظائف وبقية المستلزمات ما لا يمكنني تعويضه إلا بعد خمس سنوات عمل على الأقل، عداك عن إيجار المنزل والمصاريف اليومية وحاجتي إلى حاسوب بمواصفات عالية لضمان القيام بعمل لائق.
الاستغلال الذي نخضع له كطلاب، يؤدي إلى النفور من الدراسة لأن موازنة الوضع المعيشي والمادي مع المصاريف الجامعية هو أمر شبه مستحيل والضغوط المستمرة بدأت تؤثر على صحتنا الجسدية والنفسية على حد سواء.
رضا/ اقتصاد سنة ثالثة:
عندما أخذت قرار دراستي في دمشق، اصطدمت بالعديد من العثرات، لكنني أقدمت تلك الخطوة بغض النظر عن المصاعب. أستطيع القول إن كل أيامي في العاصمة تتناطح على مركز الأسوأ. كانت أولى التغيرات تتعلق بالبشر ذاتهم الذين لم أتشارك معهم ذاكرة، الجميع حاول استغلالي بطريقة أو بأخرى بدءًا من سماسرة السوق والمنازل وصولاً إلى مدرائي في الأعمال المختلفة التي زاولتها لتأمين مصروفي. وجدت نفسي غارقًا في دوامة من العمل المجهد والضغط لتأمين مصاريفي وعدم إهمال دراستي.
رسبت في سنتي الدراسية الأولى، لكنني تقبلت النتيجة. اكتسبت خبرة جيدة في التعامل مع الناس واستطعت تأمين عمل براتب مغرٍ بغض النظر عن كونه كئيبًا. التجربة مرهقة بحق ومليئة بالخسارات ولكنها تصبح مرضية عند لمس النتائج.
الدراسة أصبحت أمرًا ثانويًا!
بشار/ حقوق سنة ثالثة:
ظروفي لا تسمح بالانتقال من منزل عائلتي، ولا باستئجار منزل قريب من الحرم الجامعي. وهذا يضطرني للسفر مسافات طويلة كل يوم لتسجيل الحضور في دوام الجامعة، لكي أضمن نجاحي. معاملة موظفي الشؤون الطلابية تصل إلى حد الإهانة في بعض الأحيان. عدا عن مصاريف المحاضرات والكتب، رغم سوء طباعتها. إضافة إلى مصاريف التنقل بين المدن. كل ذلك يضغط على الطلاب الذين لا يمكنهم مواجهة سوق كاملة مخصصة لاستغلالهم.
وبعد المرور بكل هذه العقبات تصبح الدراسة أمرًا ثانويًا بالنسبة للطالب الذي يجد نفسه في حلقة مفرغة من تأمين مصروفه ونجاحه الجامعي، إن أغلب الطلاب لم يستفيدوا من دراستهم بسبب هذه التجارب التي تستهلكهم.
علي/ معهد سياحي سنة ثانية:
يمكنني القول بأن الوضع ليس واحداً على جميع الطلاب. من ينحدر من عائلة قادرة على تأمين مصاريفه، سيجد نفسه مرتاحًا في الدراسة. ومن يكون من الأغلبية التي تتصارع مع الوضع المادي، سينبغي عليه تأمين عمل قادر على تغطية مصاريفه وعلى الأرجح سيكون بعيدًا كل البعد عن تخصصه الجامعي. وجدت نفسي مضطرًا لتوزيع حياتي بين ثلاث مدن، سكني في مدينة، وجامعتي وعملي في مدن متفرقة، وللأسف لا يمكنني تغيير هذا الوضع. جميع الطلاب يشتركون بقناعة واحدة تقول إن الدراسة أصبحت مهمة ثانوية بعد المصاريف المتراكمة.
التوفيق بين العمل والدراسة مستحيل
آلاء/ ترجمة سنة ثالثة:
الوضع سيء للغاية، محاولة التوفيق بين العمل والدراسة شبه مستحيل، بسب المعاملة السيئة التي نتعرض لها من قبل الموظفين، والضغوط المرافقة للدراسة والمصاريف العديدة. يمكن القول إن التجربة بأكملها لا تتمحور حول الدراسة فقط، بل حول الوضع السيئ والاستغلال الذي نقع ضحيته كطلاب. جميع من أعرفهم يعملون في وظيفة لتأمين مصاريفهم وأحيانًا في وظيفتين. لذلك يصبح التعليم أصعب مما ينبغي عليه أن يكون.
استغلال للطلاب وأمراض وظيفية
أنس/ طب سنة ثالثة:
الاستغلال أصبح أمرًا طبيعيًا، التسعيرة تختلف بين الجامعات الخاصة (مثلي أنا) والجامعات الحكومية. الاستغلال يبدأ من وسائل النقل التي تتطلب مصاريف إضافية، وكأنها رفاهية من نوع ما. وصولاً للمحاضرات التي تتخذ صفة إجبارية الحضور مع عدم قبول أي عذر حتى لو كنت مصابًا بفايروس كورونا. إضافة لذلك اضطرارنا بشكل إجباري للعمل من أجل تأمين حاجاتنا الجامعية. يُفرض علينا التعامل مع طبقتي المجتمع الغنية والفقيرة، مما يضطرك للتعامل مع كل طبقة بطريقة مختلفة تمامًا عن الأخرى. إضافة إلى التوتر الناتج عن الحرب الدائمة بين الطلاب والمحاضرين الذين يعتبرون إذلال الطالب حصانة ضرورية للتعلم! عدا عن الاستغلال النفسي والمادي، يوجد الاستغلال الجسدي التي تتعرض له الطالبات أحيانًا، مما يترك صورة مقززة عن التعليم في نفس الطالب. أعرف طلابًا لا يمكنهم النجاح في مواد معينة بسبب النفسية المريضة لبعض المحاضرين. التعليم أصبح حربًا بالنسبة لي. حرب لتأمين الحاجات اليومية والتوفيق بين التعليم بسياسته المريضة مع العمل ذي الطبيعة الاستغلالية.
إحصائيات
في العام الدراسي 2020-2021 بلغ عدد الطلاب الحاصلين على الشهادة الثانوية والمستوعبين في الجامعات والمعاهد 139588 طالباً بزيادة نحو 24 ألفاً عن العام الذي سبقه، هذا الرقم يضاف إلى الطلاب القدامى الذين لم ينهوا دراستهم بعد وعددهم يقترب من 700000 ألف طالب يتوزعون على ثمان جامعات حكومية وأكثر من عشرين جامعة خاصة. الأرقام تبدو كبيرة، في ظل واقع اقتصادي ومعيشي صعب يعاني منه المجتمع السوري بشكل عام. رغم ذلك يبدو القطاع التعليمي صاحب الأولوية في تكريس الاهتمام من قبل الحكومة، نظرًا لعلاقته في بناء الجيل الجديد المستقبلي الذي سيتولى مهامه في هذه المراحل الصعبة. وحتى يتحسن واقع الطلبة من جهة التعليم والمعيشة وتوفير المستلزمات، فإن المعاناة مستمرة ومتفاقمة أيضًا.