“صراع الحضارات”: نصف فشل… ونصف انتصار

Share

قبل حوالي ربع قرن تقريباً، وبالتحديد في سنة 1993، نشر المفكر الأميركي صامويل هانتنغتون محاضرة بعنوان “صراع الحضارات” شكلت نقطة تحول مفصلية في مسار الفكر الاستراتيجي، ليس في الولايات المتحدة الأميركية فقط بل على مستوى العلاقات الدولية بصورة عامة. ونظراً إلى الضجة الكبيرة التي أثارتها المحاضرة، عكف المؤلف على تطوير نظريته ليصدرها في كتاب موسع سنة 1996.

لم يكن هانتنغتون مفكراً عادياً أو باحثاً آكاديمياً في جامعة هارفرد المرموقة فحسب، وإنما هو جزء أساسي من النخبة صاحبة القرار في واشنطن، إذ تولى في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر منصب “منسق البيت الأبيض للتخطيط الأمني في مجلس الأمن القومي”. ولقد ظل خلال السنوات اللاحقة على تماس وثيق وتفاعل دائم مع واضعي الخطط الاستراتيجية للولايات المتحدة والمعسكر الغربي الحليف لها.

قامت نظرية هانتنغتون آنذاك على أن العالم سيشهد نشوء نظام دولي جديد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار المنظومة الاشتراكية، وأن الحروب في المستقبل لن تكون بين الدول بل بين الحضارات. وعلى هذا الأساس، اعتبر هانتنغتون أن “التطرف الإسلامي” سيصبح أكبر خطر على السلام العالمي، وأن الإسلام بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بات أكبر عقبة أمام السيطرة الغربية على العالم.

وسرعان ما حظيت هذه النظرية بتأييد كبير في أوساط المحافظين الجدد في أميركا، وبتأييد متحفظ من المسؤولين الأميركيين أنفسهم (هل يمكن إعتبار الرئيس الأميركي دونالد ترامب من حملة هذه النظرية؟)، وبرفض فوضوي من المنظرين المسلمين خصوصاً في العالم العربي الذي كان قد خرج للتو من كارثة الحرب ضد العراق بعد دخول الجيش العراقي إلى الكويت. يومها فرضت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة حصاراً خانقاً على العراقيين أسفر عن مئات الألوف من القتلى، ودمّر البنى الاقتصادية والاجتماعية… تمهيداً لعملية الغزو المباشر سنة 2003.

الذين ناقشوا نظرية هانتنغتون من الموقع الرافض لها ركزوا على “استحالة” الحرب بين الغرب والدول الإسلامية في ظل النظام العالمي الجديد. وهم بذلك كانوا يفكرون بنموذج الحرب التقليدية بين الجيوش على غرار ما حدث في “معركة تحرير الكويت”، حين وقفت قوات إسلامية عدة إلى جانب الجحافل الغربية في خطة حظيت بإجماع دولي، وبمباركة مجلس الأمن الدولي. يُضاف إلى ذلك أن المنظرين الإسلاميين عملوا بجهد على إبراز دور “الحضارة الإسلامية” في تاريخ التمدن العالمي، كي يُظهروا أنه من المستبعد إندلاع “الصراع الحضاري” الذي روّج له هانتنغتون وأنصاره.

لقد تجاهل رافضو نظرية صراع الحضارات مسألتين مهمتين ترتبطان بمستقبل نظام ما بعد نهاية الحرب الباردة وانتصار المعسكر الغربي الرأسمالي: الأولى تتمثل بحاجة الغرب إلى عدو أو خصم (وهمي أو فعلي) للمساعدة في شد عصب الغرب الأميركي ـ الأوروبي وتأطير جهوده لتحقيق الهيمنة العالمية سياسياً واقتصادياً. والثانية ترتبط بصعود قوي لجماعات الإسلام السياسي بصيغها السنية والشيعية بعد “الانتصار” في أفغانستان من جهة، وبعد استقرار الأوضاع في إيران مع انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية وفرض “الحصار” على العراق من جهة أخرى.

ومن هذا المنطلق، إكتفى القسم الأكبر من الباحثين في العالمين العربي والإسلامي بمناقشة الأبعاد الحضارية فقط لذلك الصراع لاعتقادهم بأن الحرب العسكرية المباشرة بين الغرب والإسلام لا يمكن أن تقع. غير أن المنطق الغربي يختلف عن منطق هؤلاء لجهة طريقة إدارة الخطط الاستراتيجية، فهو لم يعد يلجأ إلى الحروب التقليدية المتوارثة من زمن الاستعمار إلا في حالات استثنائية كما حدث في مطلع الألفية الثانية بغزو أفغانستان والعراق بالتتابع.

ما يهمنا في نظرية هانتنغتون العناصر الثلاثة التالية:

1 ـ السيطرة الغربية على العالم في إطار النظام الدولي الجديد.

2 ـ لا عناصر مشتركة بين الغرب الأميركي ـ الأوروبي والإسلام.

3 ـ الإسلام بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أكبر عقبة أمام السيطرة الغربية على العالم.

فلننظر الآن إلى ما تحقق بعد مرور 25 سنة على بدء الترويج لهذه النظرية، علماً أن صاحبها توفي سنة 2008 قرير العين لأن ما استشرفه أصبح واقعاً راسخاً خصوصاً في العالمين العربي والإسلامي.

تمكن الغرب الأميركي ـ الأوروبي من إحكام هيمنته على العالم بعد خروج روسيا منهكة ومفككة الأوصال من عهدها السوفياتي، في حين كانت الصين تتلمس طريقها نحو الانفتاح الخارجي من خلال نظام اقتصادي يمزج العناصر الشيوعية والرأسمالية معاً. غير أن الصورة تغيرت جذرياً مع انتهاء العقد الأول من الألفية الجديدة، إذ باتت روسيا والصين (وإلى حد أقل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا) تشكلان أكبر التحديات في وجه مشاريع الهيمنة الغربية، كما استشرفها هانتنغتون.

لكن الشق الثاني من نظرية “صراع الحضارات”، المتعلق بالإسلام، حقق نجاحاً منقطع النظير على كل المستويات. فـ”التطرف الإسلامي” أو “الإرهاب الإسلامي” تحول إلى أكبر خطر على السلام العالمي، ولذلك تشكلت تحالفات وعُقدت مؤتمرات وأعدت حملات عسكرية من أجل مكافحته والقضاء عليه. ويبشرنا الخبراء الغربيون بأن خطر هذا “التطرف الإرهابي” سيبقى معنا إلى عقدين على الأقل، ما يعني ضمناً مواصلة التدخل الغربي بمختلف تجلياته!

وفي ظل الحرب العالمية المفتوحة على “الإرهاب الإسلامي”، كان يكفي للمعسكر الغربي أن يحرك ورقة التناقضات الداخلية في العالمين العربي والإسلامي حتى تغرق شعوب المنطقة في صراعات مدمرة تحقق للغرب مصالحه من دون ان يتورط في مواجهات مباشرة. فالإسلام الآن في حرب مع ذاته سياسياً ومذهبياً وعرقياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وتربوياً… إلخ. إنها حرب مفتوحة على كل الاحتمالات، طالما أن الغرب الأوروبي الاميركي يجد فرصته السانحة في الصراع المذهبي داخل الإسلام ما يقيه مغبة الغرق في مآزق صراعات دموية لا أفق لها.

لم يكن هانتنغتون يقصد أن “صراع الحضارات” بين الغرب والإسلام سيتضمن مواجهة مباشرة بين الطرفين. وإنما أراد الإشارة إلى أن الإنتصار المقبل سيكون لـ”الحضارة الغربية المسيحية”، ومن مسؤولية العقل الإستراتيجي الغربي أن يخطط لذلك. أما كيفية تحقيق ذلك الإنتصار، فقد تركها لدهاء الغربيين وغباء… الآخرين!

 

0
0