تتزامن ذكرى إعلان استقلال سورية في 8 آذار 1920 مع يوم المرأة العالمي وهو تزامن جميل ولافت. ومع أن الحدثين منفصلين، إلا أنه يمكن البحث في بعض الدلالات والإشارات لهذا التزامن.
ففيما يسير الحدث الأول في سياق التاريخ السوري الحديث وما شابه من تعرجات وسقوط في الهاوية، يسير الحدث الآخر في سياق التاريخ الاجتماعي للعالم بعد دخوله في زمن الحداثة وما شابه من تحولات عميقة، أفضت إلى إعادة الاعتبار للإنسان، بغض النظر عن جنسه، فكان انعقاد مؤتمر الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي -الرديف للأحزاب الشيوعية – في باريس عام 1945 البداية التي انطلق منها الاحتفال بيوم المرأة.
وبالعودة إلى إعلان الاستقلال السوري 1920، شكل المؤتمر السوري العام لحظة فارقة في تاريخ سورية الحديث والقديم، لحظة حاولت فيها سورية الانعتاق من طغيان النفوذ الخارجي، الذي تسلّط عليها طويلا باسم الدين خلال الدولة العثمانية وما سبقها من أطوار حكم ديني، كما تسلّط عليها لاحقا باسم المصالح الغربية والديانة الناشئة عنها، والتي تدور حول الاستعمار والانتداب والديمقراطية وحقوق الإنسان.
في 8 آذار 1920 كانت سورية امرأة تحاول التفلّت من أسر قرون سابقة وعقود لاحقة من الغزو الغربي والفتح الذكوري الشرقي، ولكي لا يكون هذا التشبيه إسقاطاً مجازياً، فان مروراً سريعا على مواد الدستور التي اقرها المؤتمر السوري العام تكشف أن هذا الدستور كان ذا طابع مؤنث، يتبنى اللامركزية وفصل السلطات وفصل الدين عن الدولة والديمقراطية.
ذلك ان ثنائية الذكورة – الأنوثة تمتد في كافة النظم السياسية والاجتماعية والثقافية، فالأنظمة الديكتاتورية هي أنظمة ذكورية، بينما الأنظمة الديمقراطية هي أنظمة امومية، كما أن الأنظمة الأحادية سواء كانت قومية أم دينية هي أنظمة ذكورية، فيما الأنظمة التي تقوم على مبادئ التنوع وقبول الآخر والعلمانية هي أنظمة أمومية، واللامركزية هي مفهوم مؤنث في مقابل المركزية التي هي مفهوم مذكر بامتياز، ومن اللافت أن سورية تحمل لفظا مؤنثا وتختزن معاني مؤنثة تمتد خلال تاريخها الطويل، فاللامركزية هي من الشيفرات الراسخة في لا وعي سورية، التي تميزت خلال تاريخها الطويل بظاهرة الممالك –المدن، وخلال كل حقب النفوذ الإمبراطوري الخارجي، الأكادي والبابلي والآشوري والحثي والمصري والفارسي، لم تشهد سورية دولة مركزية موحدة إلا مع قدوم اليونانيين الذين أسسوا نظام حكم مركزي في الدولة السلوقية (312-64) ق.م، إلا أن ذلك لم يمنع ظاهرة الدولة المدينة التي مثلتها مدينة البتراء (312ق.م – 106 م)، ولاحقاً في ظل النفوذ الروماني والبيزنطي استمرت ظاهرة المدن الحرة ذات امتيازات الحكم الذاتي، كالبتراء بعد 60 م وتدمر في عهد زنوبيا قبل توسعها الإمبراطوري ومدينة حمص في عهد عائلة الأباطرة السوريين الذين حكموا روما (سبتموس)، وفي زمن الخلافة الإسلامية وبعد أن ضعفت سلطة الخليفة في نهاية الدولة العباسية عاد نظام المدن المستقلة إلى الظهور وتشكلت لاحقاً الاتابكيات تكريسا لهذا النظام، كما أن العلمانية التي نص عليها دستور عام 1920 في المادة العاشرة منه، مشفرة في لا وعي سورية، على اعتبار أن أغلب معابد سورية المهمة تحمل في طياتها كافة التلاوين الدينية التي مرت على هذه البلاد.
ألا تنفي حجارة الجامع الأموي كليا الرأي القائل أن للمجتمع السوري خصوصية لا تقبل العلمانية؟، ألا تكتنز حجارة هذا الجامع وفضاؤه المكاني والزماني والروحي إرثا علمانيا، يجمع في طياته كافة تلاوين الإيمان وهو المعبد الآرامي الذي تعبد فيه السوريون الإله حدد ثم تعبّدوا فيه الاله جوبيتر ثم اصبح كنيسة فجامعا.
هكذا أعطى دستور عام 1920 لسورية ما تحتاجه من مواد قانونية تعكس طبيعتها المؤنثة وتحقق لها الانسجام مع ما هو مشفّر في ذاكرتها التاريخية.