يقول المؤرخ فيليب حتي في كتابه المنشور باللغة الانكليزية عام 1951 تحت عنوان ” تاريخ سورية ” إن تاريخ سورية هو تاريخ العالم المتمدن مصغراً وإن سورية قد تكون أكبر دولة صغيرة في المعمورة فمساحتها ضئيلة نسبيا لكن تأثيرها على الانسانية كوني إذ أن الإنسان في الأكثرية الساحقة من سكان هذه المعمورة باستطاعته أن يقول أنه ينتمي إلى بلده وإلى سورية بفضل ما أعطته سورية للجنس البشري عبر تاريخه وتاريخها.
ويضيف هذا المؤرخ أن المصريين القدماء حكموا سورية نحو أربعة قرون ولم يتمكنوا من تمصيرها كما أن الأتراك حكموها أيضا نحو أربعة قرون ولم يتمكنوا من تتريكها رغم الجهود الحثيثة التي بذلوها في هذا السبيل ما قد يعني أن المصريين القدماء والأتراك أخذوا من سورية أكثر مما أعطوها. وينكر زعيم تركيا الحالي رجب طيب أردوغان كاذباً أنه يحاول تكرار ما فعله أجداده أي محاولة تتريك سورية. والمنتظر طبعاً أن يفشل هذا المدعي الذي يسعى إلى إحياء الخلافة الإسلامية كما فشل أسلافه لأن المعطيات الجغرافية والتاريخية والحضارية لم تتبدل على نحو يتلاءم مع طموحات الزعيم التركي أو حتى طموحات أسلافه المعاصرين الذين قال واحد منهم أن تركيا لن تعطي سورية (سورية الحالية والعراق) الماء (دجلة والفرات) إلا مقابل بترول سورية. أضف إلى هذا أن السوريين لم ينسوا بعد ما حل بهم على أيدي الأتراك من ويلات ومصائب وتقهقر وتشرذم وتخلف عام.
من جهة أخرى بوسع المراقب المدقق أن يقول إن سكان شبه الجزيرة العربية (الأعراب) بدأوا بمحاولة تعريب سورية منذ أكثر من أربعة عشر قرناً فلم يتمكنوا إلا من جعل أكثرية السوريين تتكلم اللغة العربية بعد أن طورتها وصارت تحميها وتعتنق الدين المحمدي لأسباب عديدة لا مجال للتطرق إليها في هذا المقال. يبدو أن سورية عصية على التغريب أي على التخلي عن سوريتها رغم المحاولات الحثيثة ماضياً وحاضراً لنزع سوريتها وتشويه صورتها وتاريخها.
ربما من الصحيح القول إن إحياء عروبة سورية في الوقت الراهن بدأت بالفعل في بدايات القرن العشرين. ففي عام 1919 كان السوريون يسعون لتوحيد سورية على أساس أنها بلاد الشام ولم يعتنقوا فكرة العروبة التي تعني توحيد العالم العربي كله من المحيط الأطلسي إلى خليج القدس (أي الخليج العربي أو الفارسي) إلا في الأربعينيات من القرن العشرين لا سيما بعدما سعى الغربيون وعلى رأسهم بريطانيا العظمى لإنشاء الجامعة العربية التي أثبتت الأيام أنها كانت شاهدة زور في مأساة زرع “اسرائيل” عام 1948 بعدما تزعمها كل من الملك المصري فاروق الأول والملك عبد العزيز آل سعود جد الأسرة السعودية التي يتزعمها حاليا الملك سلمان ونجله محمد. ليس في الذاكرة ما يشير إلى أن هذه الجامعة جمعت أو حمت أو أعزّت بل كانت دائما ولا تزال رمزاً للعجز ومضيعة للوقت والجهد.
وفي عام 1947 أنشأ ميشال عفلق وزكي الأرسوزي وآخرون حزب البعث العربي الذي طلع بشعار لا يزال قائماً هو أن الناطقين باللغة العربية أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة بكل ما تعنيه كلمة أمة رغم أن أنطون سعادة كتب كتاباً عرف فيه الأمة على نحو علمي ومغاير للمفهوم البعثي وقال إن الناطقين باللغة العربية موزعون على أمم بالمعنى العلمي الدقيق يمكن القول إنهم أمم عربية لكنهم ليسوا أمة واحدة بل تجمعهم لغة الضاد وتسهل لهم التفاعل الخلاق وتفتح أمامهم آفاق التحالف والتآخي وحماية المصالح المشتركة. وتزامن هذا كله مع شيوع مناخات مصرية خالصة في مصر كان على رأسها رجال من أمثال أحمد لطفي السيد (1872 -1963) وسعد زغلول (1857 -1927) ومصطفى كامل منشئ الحزب الوطني (1874 -1908) وطه حسين (1889 -1973) وأحمد حسين منشئ حزب مصر الفتاة (على غرار حزب تركيا الفتاة) وطلعت حرب (1867 -1941) علماً بأن أحمد حسين غير اسم حزبه إلى الحزب الوطني الإسلامي ثم إلى حزب مصر الاشتراكي، ومصطفى النحاس (1879-1965). كان هؤلاء وغيرهم من المفكرين المصريين ذوي توجه مصري لا عربي أو عروبي. لم تزدهر فكرة العروبة من المحيط إلى الخليج في مصر إلا في عهد جمال عبد الناصر القصير لكن أنور السادات وجه صفعة مدوية لوجه العروبة عندما هرول لمصالحة عدو المنطقة كلها لا سيما الجزء السوري منها أي دولة “اسرائيل” الدخيلة العدوانية اللاإنسانية.
أنطون سعاده (1904 – 1949) مسؤول عن إحياء القومية السورية على نحو منظم، علماً بأن عدداً كبيراً من السوريين كانوا يؤمنون بوحدة بلاد الشام كلها وبسوريتهم لكن على نحو غير فعال وغير منتظم. جاء سعاده بعقيدة هي غاية في الوضوح والبساطة إذ يقول في كتيب مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أنشأه عام 1932:
“غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي بعث نهضة سورية قومية اجتماعية، تكفل تحقيق مبادئه، وتعيد إلى الأمة السورية حيويتها وقوتها، وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة السورية استقلالاً تاماً، وتثبيت سيادتها، وإقامة نظام جديد يؤمن مصالحها ويرفع مستوى حياتها، والسعي لإنشاء جبهة عربية”. وكان آخر تأكيد للحفاظ على هذه المبادئ عام 1947 أي قبل عامين من إعدام أنطون سعاده. يشير هذا كله إلى أن سعاده يريد إعادة الحياة إلى سورية، وإعادتها إلى ما كانت عليه طيلة تاريخها المجيد. لم يبشر سعاده بعدوانية أو توسعية أو عرقية؛ بل كل ما ابتغاه مع تلامذته إعادة سورية إلى سوريتها، أي تثبيت شخصيتها المميزة وإلى ساحة العطاء الإنساني الذي عرفت به منذ ما قبل التاريخ الجلي. يقول سعاده إن السوريين مزيج من السلالات البشرية تحتضنه أرض واضحة المعالم والحدود تفاعلوا معها عبر الزمن وأعطوها من دمائهم وعرق جبينهم بسخاء فيما أعطتهم الخير والحياة. لا تفرق الأرض السورية بين قوم وآخر إلا بمقدار الولاء الذي تكنه لها الأقوام التي تعاقبت على الحياة على هذه الأرض الطيبة. ولاء اليهودي هو دائما إلى يهوديته ولمصالح جماعته كان هذا صحيحاً ولا يزال.
كان إنشاء الجامعة العربية التي لم تنجح في أي عمل من أعمالها في حماية الناطقين باللغة العربية والذود عن مصالحهم ورد الاعتداء والظلم عنهم بالفعل رداً من الغرب الاستعماري على سعاده، حيث كانت الغاية من إنشاء الجامعة العربية ولا تزال المساعدة على زرع دولة “اسرائيل” في سورية وحمايتها والحؤول دون قيام أي حركة قد تقضي على هذا الزرع وتنهيه. فالغاية من إنشاء الجامعة العربية هو تبديد الجهود وتوزع المسؤولية.
يريد سعاده أن يكون السوري قوياً عزيزاً حراً في وطن عزيز قوي حر. العز في عقيدة سعاده مهم جداً فقد قال إن الحياة وقفة عز فقط وانتهت حياته بوقفة عز منقطعة النظير وعصية على التقليد. السوري في عقيدة سعاده هو من ولد في سورية ويكن لها وللأقوام التي تعاقبت على العيش فيها وتاريخها ولاء تاماً. سورية في عقيدة سعاده تحتضن كل من يحبها مخلصاً صادقاً مندفعاً في الدفاع عنها وعن مصالحها حتى الفداء.
قول سعاده إن الحياة وقفة عزٍ فقط، هو فتحٌ جديد في العلاقات الإنسانية على الصعيدين الفردي والاجتماعي/ الدولي. فهذا القول يثير سؤالاً عن حياة من يقصد سعاده؟!، لا شك أن الحياة بالنسبة لرجل أعطى حياته لأمته وللإنسانية تعني حياة كل إنسان فالإنسان في الدولة القومية الاجتماعية حر عزيز حتى ولو أجرم إذ إن الجريمة تعاقب بما يقره المجتمع وهذه الدولة القومية معادية على نحو جذري للاستعمار، لا سيما الغربي منه مثلما هي معادية للحركة الصهيونية التي عملت على إذلال الشعب الفلسطيني الذي يشكل جزءا من الأمة السورية وعلى إخراجه من أرضه وتشريده ما يعني غاية الإذلال والحرمان من العز.
1 Comment
ليت سعادة اكتفى بسورية فيليب حتي بلاد الشام. بلاد الرافدين لم تكن يوما جزءا من الوطن السوري. الامة السورية امة ميدترانية كما قال سعادة الشاب.