سعاده 1949- كأن الحرب العالمية الثانية لم تكن قد انتهت بعد

شحاده الغاوي

Share

إن من يريد معرفة كيف استشهد سعاده، ولماذا استشهد هذا الفيلسوف والعالِم والقائد السياسي الإستثنائي في تاريخ سورية، يجب عليه أن يدرس الحالة السياسية التي كانت مهيمنة في سورية وفي العالم بعد الحرب العالمية الثانية.

يجب أولاً التعرُّف على “عقيدة” المنتصرين في الحرب ودوافعهم ومصالحهم ووسائل تحقيقها. ويجب ثانياً التعرّف على عقيدة سعاده وقضيته ووسائله المتاحة آنذاك لتحقيقها.

سنة 1949 كان سعاده مستعجلاً، يسابق الوقت والتاريخ والمراحل، ويحاول تغيير نتائج الحرب العالمية الثانية التي كانت قد انتهت سنة 1945. وأهم وأصعب ما كان يحاول تغييره من نتائج تلك الحرب هو إثنان: أولهما هو تثبيت أتفاقية سايكس بيكو التي كانت قد أُبرِمت بعد الحرب العالمية الأولى والتي قسمت الوطن القومي السوري الى كيانات سياسية- دول متخاصمة، وعوامل خصوماتها عميقة متجذرة وشبه دائمة لم تكن عقيدته قد تمكنت من تذليلها بعد. وثانيهما هو زرع دولة إسرائيل في فلسطين وتهديدها لمصير سورية كلها.

الحرب العالمية كانت في أوجها يوم كان هو أسيراً مكبلاً منفياً في الارجنتين. لم يستطع الاشتراك في الحرب ولم يستطع لعب أي دور فيها أو تغيير أو تعديل أي شيء من مسارها. إنتهت الحرب وانتصر المنتصرون، وهو لا زال يصارع للحصول على جواز سفر ليعود به الى وطنه من منفاه الارجنتيني. عاد سعاده الى الوطن في أول آذار 1947، أي بعد انتهاء الحرب بسنتين طويلتين، ووجد نفسه في خضم أربع حروب إرتدادية، وليس في حرب واحدة:

حرب داخلية ضمن الحزب، وحرب داخلية مع حكومة لبنان… “وأمرّ الحروب هي الحرب الداخلية، الحرب التي يشنها علينا من يدعوهم الشرف القومي للمحاربة معنا فلا يحاربون إلا ضدنا“.

وهناك حرب لا تنتظر أبداً مع اليهود الصهيونيين في فلسطين، وفوق كل هذه الحروب حرب مع العتاة المتجبرين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية الذين يريدون اقتسام العالم والسيطرة عليه وعلى كل تفصيل فيه وهم الذين يديرون الحروب الداخلية ويتحكمون بها ويستثمرونها.

لقد فُرِض على سعاده، ومنذ اليوم الأول لوصوله الى بيروت، أن يخوض هذه الحروب الإرتدادية كلها في وقت واحد فربح واحدة وخسر ثلاثة: ربح حرب استعادة الحزب وشرح عقيدته وانتشاره الكبير من حلب حتى فلسطين، وخسر ثلاثة أدت خسارته إياها الى استشهاده.

سنة 1947 كانت سنة الانتصار على الخيانة والانحراف داخل الحزب، وسنة 1948 كانت السنة الأكثر نمواً وانتشاراً للحزب والأكثر حرية في النشاط والعمل والأكثر شرحاً ووضوحاً وتعمقاً في العقيدة وفهم المبادئ، إنها سنة الجولة الى مناطق الداخل في الشام وحمص وحماه وحلب واللاذقية حيث كانت جموع الشعب تنتظره لتنهل من عطائه وإشعاعه. إنها سنة المحاضرات العشر التي كانت أعظم عمل وإنجاز ثقافي وإعلامي يقوم به سعاده إطلاقاً. المحاضرات العشر كانت تحفة إعلامية وثقافية وفلسفية شرح فيها المبادئ وغاية الحزب بوضوح وتفصيل وعمق وسهولة معاً، وكانت شروحه تلامس وجدان وعقل المواطنين العاديين المحدودي العلم والثقافة كما أهل العلم والثقافة والفكر والاختصاص في نفس الوقت. لأول مرة يسمع المثقفون والمفكرون عبارة “نظام الفكر”، ولأول مرة يستمع الناس الى قائد سياسي يتكلم على الفلسفة ودور الفلسفة في معالجة الأمور العملية (علينا أن نفهم فلسفة الحركة لندرك كيف نعالج الأمور)، ولأول مرة يقف الناس أمام رجل يدلّهم من أين يجب الإبتداء في التفكير الاجتماعي الاقتصادي السياسي (السؤال الفلسفي: من نحن)، ولأول مرة يفهم الشعب معنى كلمات مبادئ ونهضة وصراع وحق وحرية. إن المحاضرات العشر كانت تحفة فكرية حققها سعاده من فيض علمه وإشعاع فلسفته ونظرته الى الحياة والكون والفن، وقد فعلت وأدّت سنة 1948 الى تألّق الحزب وامتداده الكبير وانتشاره الواسع في جميع المناطق وجميع الاوساط والطبقات الاجتماعية والطوائف والمذاهب والأقليات والأكثريات، حسب تسمية عهد ما قبل النهضة السورية القومية الاجتماعية.

إن إنشاء المحاضرات العشر قد حسم المعركة ضد الانحراف العقائدي، وانتشارها أدى الى نمو سريع للحزب، نمواً أقلق خصوم سعاده الداخليين، فضلاً عن أعدائه الخارجيين، وجعلهم يدركون أنهم أمام حركة قوية نامية مصممة مهاجِمة ستدك حصونهم وعروشهم من أساسها، في وقت هم عاجزون عن مقارعتها، فصاروا مستعدين لفعل أي شيء لوقفها وإنقاذ أنفسهم منها، حتى ولو كان هذا الشيء هو التآمر والقتل.

أما الأعداء الخارجيون فقد رأوا في حركة سعادة وعقيدته ونظامه أمراً خطيراً جديداً لم يروا مثله ومثل خطورته طيلة عقود من سيطرتهم الاستعمارية. لم يتعودوا ألا على مدّاحين للأجنبي مرتزقين من وجوده في بلادهم ومرتهنين لإرادته وضعفاء فاقدي الثقة بإمكانات الأمة وأهليتها للاستقلال والسيادة والحرية، وأذا ما لقوا مقاومة فأختلاجات ابتدائية وتململات محدودة سرعان ما كانوا يستوعبونها بالأغراء أو يقمعونها بالقوة.

أن ينبري سعاده ويؤسس حركة قومية ذات عقيدة وأساس علمي وينشئ نظاماً متيناً ويتقدم به ليخاطب الغرب والشرق بلغة واحدة هي لغة السيادة القومية والحق القومي ويعلن “أن الحق القومي لا يكون حقاً في معترك الامم ألا بمقدار ما تدعمه من قوة الامة. وأن القوة هي القول
الفصل في اثبات الحق القومي أو أنكاره“، أن ينبري سعاده ويعلن ذلك، فهو ما جعله في مواجهة المستعمرين وجهاً لوجه لأول مرة منذ عقود طويلة وقرون أطول.

لأول مرة يوجد في سورية من يصرخ في وجه العالم ويقول: “ليس لجمعية الامم المتحدة كلها أن تفرض على الامة السورية مقررات تنزع سيادة الامة السورية عن وطنها وحقها في أرضها. أن جمعية الامم المتحدة هي جمعية الامم التي أنتصرت مصالحها في الحرب العالمية الثانية ومن والاها. أنها لم تنشأ بإرادة عالمية في ظروف من تساوي الحقوق في ما بين أمم العالم. أن هذه الجمعية لا تملك حق تقرير مصير الامة السورية ولا تقرير مصير جزئها الجنوبي فلسطين” (من رسالته الى الامة السورية تاريخ 2 تشرين الثاني 47).

أن يجرؤ سعادة ويقول ذلك للأقوياء المنتصرين في الحرب، ثم يجرؤ ويتحدى الغرب والشرق، على تناقض مصالحهما، ويضع نفسه وأمته في مواجهة ما أسماه “الاقطاع الانترنسيوني” (قالها في ندائه الى منتجي الامة بمناسبة عيد العمال أول أيار 49)، ويعتبر المادية الماركسية الجامحة صنواً للمادية الرأسمالية الخانقة المسيطرة، ويرفض نزعتهما للسيطرة على العالم، أن يجرؤ على القول أن العالم يحتاج اليوم الى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط الفلسفات الجزئية وضلالها…(من رسالته المرسلة من الارجنتين في 10 كانون الثاني 47). فأن ذلك ما جعل العالم المسيطر بالقوة العسكرية، يضع سعادة وحزبه على رأس قائمة أعدائه الذين يجب أنهاؤهم بالقتل.

ولكي يفهم القارئ اليوم لماذا كان سعاده يخاطب الشرق والغرب بلغة واحدة، والظروف السياسية العالمية اليوم قد تغيرت كثيراً، يجب أن يعرف أن الشرق والغرب في ذلك الوقت عملا معاً على زرع أسرائيل في فلسطين ومدها بالقوة، وكانا معاً ينكران على أمتنا حقها في الوحدة والسيادة والحرية. كان الاتحاد السوفياتي لا يزال أسير النظرة الماركسية التقليدية التي تعتبر الكلام عن حقوق قومية وسيادة قومية يجب أن تُنتزع بالقوة، كان يعتبره كلاماً خارج التاريخ وخارج العصر ولا يمكن تأييده أبداً. كان شعار الشيوعيين في العالم: “خبز وسلم وحرية”، وهذا الشعار أرادوا تطبيقه علينا وحدنا في وقت كانوا يدعمون أحتلال اليهود الصهيونيين لفلسطين بالقوة. أما الشيوعيون السوريون فكانوا صدى للسياسة الشيوعية السوفياتية المؤيدة لتقسيم فلسطين وأنشاء الدولة اليهودية.

لا تتسع هذه المقالة لقراءات في نماذج الأعلام الشيوعي آنذاك، ولكننا سنكتفي بهذا التصريح الذي صدر عن وزير خارجية الاتحاد السوفياتي خلال أجتماع في الامم المتحدة سنة 1951، قال: “أن الاتحاد السوفياتي يؤيد بلاد الشرق الادنى في أمانيها القومية السلمية، متبعاً نحو شعوبها سياسة سلمية يجابه بها سياسة الاستعمار الغربي العدوانية” (الجيل الجديد 25-11-51). هكذا كانت نظرة الاتحاد السوفياتي وموقفه من صراع وكفاح أمتنا السورية للحفاظ على حقوقها القومية، أي حقوقها بأرضها ومواردها مصدر حياتها. وهذا التصريح في أوائل الخمسينات كان يعتبر تحولاً كبيراً في موقف السوفيات في الاربعينات من الحركات القومية، فهو صار في الخمسينيات يؤيد “الأماني القومية” التي كان يعتبرها في السابق رجعية، ولكنه بقي ينظر الى أستقلال الشعوب وحقوق الشعوب وسيادتها على موارد حياتها في أرض وطنها، أي حقوقها القومية، كأنها مجرد أماني ونزعات عاطفية روحية. وقد بقي الشيوعيون في وهم أمكانية مجابهة سياسة الاستعمار الغربي العدوانية، بالسياسة السلمية!! ذلك بالرغم من أن الروس الشيوعيين كانو لتوهم خارجين منتصرين على المانيا بفضل سياسة القوة التي أستعملتها اليقظة القومية الروسية في الحرب، وليس بفضل السياسة السلمية.

هذا بالضبط ما حدا بسعاده يومها للكلام عن “الصهيونية وأمتداداتها الانترنسيونية”، دون أن يستثني الشرق من هذه الامتدادات ونفوذها، وهذا ما حداه للكلام على الاقطاع الانترنسيوني ولأتهام الحركات الشيوعية السورية والعربية بأنها تخدم المصالح القومية الروسية في بلادنا (نداء سعادة الى منتجي الامة 1 أيار 49).

ومن هو سعاده هذا الذي يقارع الشرق والغرب المنتصرين معاً في الحرب ويتصدى لسياساتهم في بلادنا ؟! من هو هذا الذي يحاول وحده إلغاء نتائج الحرب العالمية الثانية بعد أربع سنوات من انتهائها؟! إن سعاده هذا يجب التخلص منه…

وللاستعمار والصهيونية عيون يقظة في كل مكان، فهم ينفذون مشروعهم التاريخي الكبير وقد جندوا له كل ما يستطيعون من قوة. إن عيونهم قد رصدت امتداد الحركة السورية القومية الاجتماعية التي يقودها سعاده وأنتشار فروعها من حلب حتى فلسطين، ورأوا كيف “تمتد روح الحزب السوري القومي الاجتماعي في جسم الامة وتنظم جماعاتها”، فسعاده بالنسبة لهم هو مصدر خطر كبير… يجب قتله.

أن من يريد فهم الأسباب الحقيقية والمقدمات التي أدت الى استشهاد سعاده يجب عليه قبل كل شيء أن يتعرّف على كل حركته سنتين على الأقل قبل الإستشهاد. يجب رصد حركته وأعماله وأقواله معاً. يجب قراءة محاضراته العشر، ويجب أيضاً قراءة سلسلة خطاباته، وخاصةً خطاب برج البراجنة، ويجب بشكل خاص قراءة سلسلة المقالات التي كتبها، خلال عدة أشهر قبل استشهاده في جريدتي كل شيء والجيل الجديد وهي: العروبة أفلست، الحزبية الدينية لعنة الامة، آن للشباب أن يدرك، لائحة العقاقير لا تصنع طبيباً، مشكلة الحرية تحل بالحرية، دور الغول أنتهى، حق الصراع هو حق التقدم، الامة تريد نهضة لا حلة، لا مفر من النجاح، أقتتالنا على السماء أفقدنا الارض، صناعة العقائد المزيفة، مجموع أشخاص يساوي قضايا شخصية، نداء الى منتجي الامة وبنائي مجدها، خلاص الامة في وعيها الاجتماعي، سلاح أنترنسيوني لم يستعمل بعد، وغيرها.*

لا شك أن أعداء سعاده قد قرأوه جيداً وعرفوا أنه قائد خطير من طراز فريد لا يمكن احتواءه وترويضه. ففي مقالة “حق الصراع هو حق التقدم”، مثلاً، يشرح سعاده ماذا تعني الوحدة الانسانية والسلام العالمي التي كان المنتصرون في الحرب العالمية يرفعونها غطاء لأقتسام العالم. شرح ماذا تعني الانترنسيونية الشيوعية والعالمية الاميركية، ومنظمة الامم المتحدة ومؤسستها الثقافية الاونيسكو، ويذكّر بما قاله منذ سنة 37: “ليس أسهل من تنازل بعض الامم عن حقوقها
في الحياة من أجل اقامة سلام دائم في العالم، وسورية القومية الاجتماعية ترفض أن تكون من هذا البعض” وزاد فقال: “أن أمتنا تكاد تختنق من خمول السلام وسلام الخمول، أننا لا نريد الأعتداء على أحد ولكننا نأبى أن نكون طعاماً لأمم أخرى. أننا نريد حقوقنا كاملة ونريد مساواتنا مع المصارعين لنشترك في أقامة السلام الذي نرضى به. أن حركتنا هي حركة صراع وتقدم وأنها ليست مستعدة للتنازل بل للأنتصار. أن حق الصراع هو حق التقدم فلسنا بمتنازلين عن هذا الحق للذين يبشروننا بالسلام ويعدون للحرب”.

أي نوع من الرجال القادة هو سعاده ! كيف يجرؤ على مخاطبة العالم ودول العالم المنتصرة في الحرب بهذه القوة والأرادة والمعرفة وصحة النظر والندية والتصميم وعدم التنازل، ومطالبتها بمساواة سورية مع المصارعين لتشترك في إقامة السلام الذي ترضى به؟! كيف لهذا القائد ألّا يعترف بنتائج الحرب! ألم يعرف أن الحرب العالمية قد انتهت منذ أربع سنوات وأن سورية هي من حصة الفرنسيين والانكليز!! إنه يجب أن يُقضى عليه… هكذا يفكّر المستعمرون، والباقي تفاصيل.

هل يتكرر خطاب سعاده يوماً ما في المستقبل وفي ظروف عالمية متغيِّرة؟

* يمكن إلوصول إلى جميع هذه المقالات عبر البحث في هذا الموقع: http://antoun-saadeh.com/

0
0

0 Comment

ايلي عون 31 يوليو، 2020 - 1:17 م

الرفيق شحاده الغاوي عودنا على مقارباته العقدية التي تتسم بالتحليل الدقيق والعلمي ، ونرتقب الكثير منه. لتحي سورية.

Post Comment