(لم يُوجد العقل الإنساني عبثاً.
… وجد ليعرف. ليدرك. ليتبصّر. ليميّز. ليعيّن الأهداف وليفعل في الوجود.)
إن كانت هذه العبارة، وهي من المقدمات التي تتصدر تعريفنا لفلسفتنا. إن كانت من الافتتاحيات المميزة لفلسفة سعادة، فلماذا، إذاً، نشعر بهذا الضياع، بهذا التيه؟
لا تتوقف (ثروتنا الفكريّة) عند حدود هذا التوصيف المجرّد للعقل، بل تمتد لتشمل في (مقتناها) الأثير (عقلنا) نحن، الذي يشير إلى الإنجاز الاستثنائي لسعادة، المتمثّل في تحرير (العقل السّوري) من معطّلاته وكوابحه ورواسبه، وإعادة صياغة مرجعياته ومصادره وربطه بـ (مناجم) التاريخ الإبداعي العملي السوري، الذي يرتسم مساراً واصلاً إلى التأسيس الأولي للفعل الإنساني في التاريخ.
التدرّج في قراءة مسار هذا العقل، وما أنتجه في رحلته الطويلة، يؤكد دون أدنى شكّ، أنَّ وجوده لم يكن عبثاً. (أكرر: لم يكن عبثاً). وسأكرر أيضاً، نحن الذين مُنحنا هذه الثروة، ويفترض أن نكون وراء عقلنا – شرعنا الأعلى، لماذا نقيم في هذا التيه، الذي يكاد يكون بلا نهاية؟
قرأنة سعادة
يتعرّض سعادة إلى عملية (قَرأَنَة) لـ (نَصِّهِ)، عبر تحميله كل الصفات التي تُنسب، بالأصل، لـ (النص القرآني)، والتي أكثرها وضوحاً، وأخطرها على نصّ سعادة، تبدو في تجريد هذا النص من الشروط التاريخية لوجوده وعلّة صياغته، ليُنتج عارٍ مشفّى بلا زمن يشير إلى موعد ولادته، وبلا مكان (حالة) يشير إلى مسقط رأسه!
القرأنة، بهذا المعنى، هي اقتطاع لـ (النَّص) من التاريخ، ومحو مؤشرات وجوده النسبي / المتحرك، وتطويبه كـ (مطلق) ساكن، تكمن الأسرار فيه، ويستحوذ على مختلف الحلول للمشكلات الراهنة المرئية وتلك المستقبلية المتوقعة. والمطلق، بطبيعة معناه، هو (كلّيّ) جامع (المتوافقات مع المتناقضات)، ولهذا يُرى بوجوه متعددة. فقهياً: يُرى بوجوه لا نهائية، ليوصف بأنه: حمّال أوجه.
لا أدري كيف يمكن تجاوز هذا الأساس الفلسفي المميز لسعادة: (التعيين هو شرط الوضوح، والوضوح هو الحالة الطبيعيّة للذات المدركة الواعية الفاهمة. كل مطلق ليس واضحاً هو نسبي مهما قيل إنه مطلق غير نسبي. كل مطلق مبهم هو لا شيء – من المحاضرة السادسة -)
إذا كان من مسؤولية المفكّرين القوميين الاجتماعيين، دراسة هذه الإشكالية عموماً، من أجل وضع النَّص السَّعادي، في شروط وجوده وعلّته وتاريخيته وحركته، سأحاول، هنا، وبحكم الضرورة المصيرية المتمثلة بأزمة الحزب، مقاربة قرأنة (الديمقراطيّة) في وجهها (التعبيري) المميز لخطاب سعادة، كما في وجهها (التمثيلي) الذي أعلن سعادة نفسه عن انتصاره النهائي؟
تعبيريّة أو تمثيليّة؟ متاهة؟
مع دخول أزمة الحزب في (فصل الانشقاق)، سنلتفت جميعاً صوب (مصدر السلطة – رحمها). سنشكك فيه، فلسفة وآلية عمل وطريقة إنتاج؟
التحديق المستمر بـ (مصدر انبثاق السلطة)، أدى في أحد أخطر نتائجه، إلى وضعنا في متاهة لا يبدو الخروج منها متيّسراً، دون كسر حاجز الخوف من اختيار طريق الخروج والثقة فيه، وعدم اعتباره حلاً مطلقاً، عابراً للمشكلات، كابحاً نوازع البشر المرَضية وتشوّهاتها الأخلاقية، لمجرد وجوده وحسب.
للتو، اعتمدنا المنهج النسبي الذي يمكن أن يوصلنا للوضوح.
ما بين خطاب سعادة في سانتياغو – الأرجنتين 1940، الذي قدّم فيه (الديمقراطية التعبيريّة)، والمحاضرة السابعة له في بيروت 1948، التي تضمّنت قناعته بانتصار الديمقراطيّة العصريّة ذات الامتداد في أصلها نحو الثورتين الأميركية والفرنسيّة. ما بين التعبيريّة في سانتياغو والتمثيليّة في بيروت، شيّدنا تلك المتاهة التي نخاف أن ننهيها في سانتياغو لنحتار ماذا نفعل ببيروت، أو ننهيها في بيروت لنحكم على سانتياغو بالإعدام؟
الدخول من سانتياغو:
المكان: مدينة سانتياغو – الأرجنتين.
الزمان: 8 أيار 1940.
المناسبة: زيارة أنطون سعادة للاجتماع والالتقاء بالجالية السوريّة.
المرجع: جريدة سورية الجديدة، العدد 67، الصادر بتاريخ 25 أيار، والعدد 68، الصادر بتاريخ 1 حزيران، 1940.
طبيعة المرجع: تقرير صحفي. (مُصنّف في الأعمال الكاملة بكون سعادة نفسه هو كاتبه).
في العدد 67، يرد في التقرير الذي يصف زيارة سعادة ومتى وصل وأين تمت استضافته، ومن ثم يعرض لحديثه – خطبته، أمام الزوّار الذين توافدوا للاستماع إليه مساء يوم وصوله. يرد المقطع أو المقاطع التالية بخصوص الديمقراطيّة التعبيريّة:
[وتطرق إلى الكلام عن مؤسسة الديموقراطية في العالم، كذلك سورية القومية التي تضع أمام العالم اليوم فكرة «التعبير عن الإرادة العامة» بدلاً من فكرة «تمثيل الإرادة العامة» التي لم تعد تصلح للأعمال الأساسية لحياة جديدة.
إننا نشق في الحياة طريقاً جديداً نختاره نحن لأنفسنا ونعتمد عليه في تفكيرنا الخاص، وسوف يكون هذا الطريق من جملة الإنتاج الذي يأخذه الناس عنا. إنّ التفكير الحاضر دخل في طور الشيخوخة في العالم كله، والبشرية بأسرها تنتظر تفكيراً جديداً تنال به سعادتها وراحتها وحريتها، وهذه البضاعة الجديدة سيخرج أكثرها وأفضلها من سورية، بلاد العبقرية والنبوغ.
إنّ الديموقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس، فتحولت إلى نوع من الفوضى لدرجة أنّ الشعب ذاته يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها «تمثيل» الإرادة العامة، وصار ينتظر انقلاباً جديداً. وهذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية القائلة بالعودة إلى الأساس والتعويل على «التعبير عن الإرادة العامة» بدلاً من «تمثيل الإرادة العامة» الذي هو شكل ظاهري جامد.
فالتفكير السوري القومي الجديد هو إيجاد طريقة جديدة اسمها «التعبير عن إرادة الشعب»، وقد يكون هذا التعبير بواسطة الفرد أو بواسطة الجماعة حسبما يتفق أن يوجد.
فهذه الفكرة الجديدة، أي «التعبير عن إرادة الشعب»، هي الاكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد. وهو دستورنا في سورية الذي نعمل به لنجعل البلاد دائماً كما تريد الأمة.
إنّ الأمم كلها تريد الخير والفلاح. ولكن المشكل هو في إيجاد التعبير الصالح عن هذه الإرادة. فالإرادة العامة إذا لم تجد «التعبير» الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة تصبح عرضة لأن تقع فريسة للمطامع والمآرب «التمثيلية».
فالتمثيل هو دائماً أهون من التعبير، لأن التمثيل شيء جامد يتعلق بما قد حصل، أما التعبير فغرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد.
هذا هو الخلل الاجتماعي الذي يريد التفكير السوري الحديث أن يصلحه، تفهُّم إرادة الشعب وإعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة.
ثم أخذ حضرة الخطيب يسرد شيئاً من حضارة السوريين في الماضي والمبادئ الصالحة التي أخذها الناس عنهم، فذكر نشوء الديموقراطية في سورية التي ظهرت لأول مرة في التاريخ البشري بواسطة انتخاب الملوك في الدول السورية.]
وفي العدد 68، يتضمن التقرير الذي يتابع تغطية زيارة سعادة، المقطع التالي:
[أما الديموقراطية التي يفتخر بها العالم الآن فهي من صنع سوري أيضاً، لأن أول فكرة ديموقراطية تُعطي الشعب حقه في إبداء الرأي في سائر شؤونه ظهرت في سورية، وبلا شك هي الغرسة الأولى في هذا الباب التي أعطت الثمر الكثير للعالم كله، ولا يزال البشر إلى الآن يجاهدون في إيصال هذه الفكرة «حقوق الإنسان» إلى حد الكمال.
وأعظم ما يشير إليه الزعيم في هذا الموضوع هو أنّ السوريين القوميين يجب أن يعرفوا واجبهم في هذه القضية الخطيرة، وأنّ العالم بأسره ينتظر منهم تفكيراً جديداً، ولا سيما في الوجهة الديموقراطية التي أصبحت الآن في حال مبهمة، فالسوري القومي يجب أن يعالجها من جديد ويدفعها إلى العالم كاملة.
فالسوري المفكّر يجب أن يهتم في إنقاذ الديموقراطية من الهلاك. وذلك بأن يزيل ما دخل إليها من الفساد ويدخل إليها تفكيراً ينطبق على ما وصل إليه الناس من العلم والمعرفة، فتصير صالحة لنفع الإنسان وتكفل حقوق الإنسان من كل مهاجمة وتعدٍّ.
هذا هو الإصلاح الذي تتمخض به البشرية ولا بدّ أن يولد. فإذا جاء عن يد سورية تكون هذه البلاد العزيزة ــــ بلادنا ــــ ولدت الديموقراطية، ثم أنقذتها من الهلاك عندما داهمتها الأخطار الكثيرة. إنّ الأم تفهم آلام ابنها وتداويها أحسن من جميع الناس.]
الآن، سنعالج النصّ من باب الجملة التساؤليّة التالية:
لمن يتوجّه هذا النصّ؟
هل يتضمن أية إشارات بارزة تدلّ على أنّه يعالج مشكلة الديمقراطية في الحزب؟
هل يتضمن ما يشير إلى أنه يقدم عنواناً لآليّة دستورية خاصة بالحزب؟
ما هو مؤدّاه الأخير؟
دون أدنى شكّ، النصّ موجه، بالأصل، إلى الجالية السورية في مدينة سانتياغو، واستطراداً إلى الشعب السوري. أي هو يخاطب الرأي العام، وليس فيه ما يشير إلى مخاطبته (الرأي الحزبي) تخصيصاً بأي شكل من الأشكال. وهو، أي المقطع الخاص بالديمقراطية، واحد من جملة مقاطع تشكّل بنية الخطاب كلّه. من هذه الوجهة، نحن لا نقرأ نصّاً خاصّاً بالديمقراطية ومكرّساً لبحثها. فضلاً عن كونه، بالأصل، خطاباً ارتجالياً لسعادة أمام الذين استقبلوه وجاؤوا للتسليم عليه، أي أن الجمهور الحاضر له صفة العموم.
لم يتطرق النصّ، إلى مشكلة مصدر السلطة في الحزب، ولا إلى الديمقراطية وتطبيقاتها في الحزب، ولا يقارب أية مشكلة تخصّ نظام الحزب أو دستوره.
ما تحدّث به سعادة في سانتياغو، وعُرض في جريدة سورية الجديدة، من خلال تقريرين صحفيين، يمكن مَنهَجته وفق الجملة التالية:
ما هي ملامح التاريخ السوري التي تدل على شخصيّة الأمة وإنجازاتها التي صنعتها لنفسها وقدمتها للإنسانيّة؟ وماذا يمكن أن تقدم (سورية القومية) الآن، وفي المستقبل، لنفسها وللإنسانيّة التي يمرّ التفكير الحاضر فيها بطور الشيخوخة وتواجه مستقبلاً مبهماً وغامضاً؟
يشير سعادة إلى فكرتين رئيستين تشكّلان (الإنجاز الجديد) الذي يمكن أن تقدمه سورية للعالم الآن: الأولى: إنَّ (الحياة الانسانيّة يجب أن تعتبر حاصلاً مادياً روحيّاً. هذا ما تقول به الفلسفة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة. وهذه الفلسفة يحتاج إليها العالم كله لا سورية فقط)، وهي الفكرة التي ستأخذ لاحقاً مُسمّى: المدرحيّة.
الثانيّة: إنَّ (سورية القوميّة تضع أمام العالم اليوم فكرة «التعبير عن الإرادة العامة» بدلاً من فكرة «تمثيل الإرادة العامة»)، معتبراً أن الديمقراطية في مأزق كبير، ومحرّضاً (المفكّر السوري) على إيجاد الحلول لإنقاذها من الهلاك. بهذا المعنى، يطرح سعادة الفكرة الرئيسية للاكتشاف السوري، ويدعو إلى استكمال إنجازه. لأنَّ ما قاله في الخطاب وجاء معروضاً في تقرير صحفي لا يشكّل بذاته أطروحة فكرية فلسفيّة متكاملة، ولذلك أخذ منهجيّاً مكانته كعنوان رئيسي، بلغةٍ تبشّر به، ولكن تحثّ (المفكّر السوري) على إنجازه.
إذاً، كيف نرى الديمقراطيّة التعبيريّة، وأين ومتى؟
اولاً: في الحزب (عندما تكون سورية غير قوميّة، كما هو واقعها الآن):
يتأسس مفهوم (التعبير عن الإرادة العامة) على مفهوم الحزب نفسه، باعتباره حزباً (لا اعتيادياً)، فهو لم يتأسس لمشاركة القوى السياسية الموجودة في (تحصيل الواقع)، على النحو الذي يحافظ على هذا الواقع، ويأخذ (حصته) منه، حيث (يمثّل الحزب) ما هو (قائم وحاصل) ليأتي تمثيله له (جامداً)، بل تأسس بغرض (الإنشاء وإدراك شيء جديد)، عن طريق تغيير الواقع تماماً. بهذا المعنى، يعبّر الحزب عن إرادة الأمة بالتغيير، وبهذا المعنى نفسه تتحقق الديمقراطية التعبيرية، بكونها صفة لطبيعة الحزب وحركته وعلاقته بالأمة.
وإذا كان سعادة قد أشار بوضوح إلى أن هذا التعبير قد يكون (بواسطة الفرد أو بواسطة الجماعة، حسبما يتفق أن يوجد)، فهذا يقود، إلى صياغة التحديدين التاليين:
1-أنطون سعادة الفرد، هو المعبّر عن (الإرادة العامة) للأمّة السّورية. من تاريخ تأسيسه للحزب إلى تاريخ استشهاده.
2-الحزب، بعد استشهاد سعادة، أصبح هو المعبّر عن (الإرادة العامة) للأمة السورية، وسيظل كذلك إلى الوقت الذي تتحقق فيه (سورية القوميّة).
إذاً، أين (التعبيريّة) في دستور الحزب؟
دستور الحزب مع المراسيم الدستورية، لا يضع أية آليّة تحت مسمّى (الديمقراطيّة التعبيرية)، ورغم مضي تسع سنوات ما بين إطلاق سعادة لهذا المصطلح (1940)، واستشهاده (1949)، لا نجد أي مرسوم دستوري، أو أية إضافات مميزة لما قدّمه سعادة في خطاب سانتياغو؟
هل من سرٍّ في ذلك؟
برأينا، السرّ يكمن في أن المصطلح يشير إلى معنى محدد للديمقراطية، لا إلى آليّة محددة بعينها لإنجازها.
فلسفة الإنسان – المجتمع، الإنسان الجديد، في تجلّيها الواقعي، في الحزب، ومن ثم في المجتمع، لا تمنح لأحدٍ التعبير عن آخر. لا المسؤول في المؤسسات العليا (يعبّر) عن المسؤول في المؤسسات الأدنى، ولا المسؤول يعبّر عن الرفيق، ولا الأمين يعبّر عن غير الأمين. العلاقة بين المؤسسات والأفراد محكومة بالصلاحيات، فيما (التعبير عن الإرادة العامة) صفة لمحصلة الفعل العام لهم.
ثانيّاً: في الأمّة (سورية القوميّة):
بالأصل، يستخدم سعادة هذا التعبير ليشير إلى الحزب المعبّر عن سورية القوميّة، التي في حال إنجازها ليتطابق المعنى مع الواقع، تأخذ، تلقائياً الصفات التي كانت لـ (الحزب). فإن كان الحزب (معبّراً) عن إرادة الأمة العامة، فإن هذا التعبير سيؤول للأمة مع إنجازها لنفسها قوميّاً. أي وصولها إلى مجتمع واحد بهويّة سوريّة واحدة.
إنَّ المقطع التالي، من فصل الدولة في كتاب (نشوء الأمم) لسعادة، يمنح هذا المعنى، مرجعيته المفهوميّة والعلمية:
[أنّ السّيادة مستمدّة من الشّعب وأنّ الشّعب لم يوجد للدّولة بل الدّولة للشّعب.
هذا هو المبدأ الدّيمقراطيّ الّذي تقوم عليه القوميّة. فالدّولة الدّيمقراطيّة هي دّولة قوميّة حتماً، فهي لا تقوم على معتقدات خارجيّة أو إرادة وهميّة، بل على إرادة عامّة ناتجة عن الشّعور بالاشتراك في حياة اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة. الدّولة أصبحت تمثّل هذه الإرادة. فتمثيل الشّعب هو مبدأ ديمقراطيّ قوميّ لم تعرفه الدّول السّابقة. الدّولة الدّيمقراطيّة لم تمثّل التاريخ الماضي ولا التّقاليد العتيقة ولا مشيئة الله ولا المجد الغابر، بل مصلحة الشّعب ذي الحياة الواحدة الممثّلة في الإرادة العامّة، في الإجماع الفاعل، لا في الإجماع المطاوع.
تحت هذا العامل الجديد، عامل القوميّة الظاهر في تولّد روح الجماعة والرأي العامّ، تغيّر معنى الدّولة من القّوة الحاكمة المستبدّة إلى سيادة المتّحد وحكمه نفسه. والوسيلة الّتي مكّنت المتحد من تحقيق هذا المبدأ الجديد هي التّمثيل السّياسي، الّذي مكّن من الفصل بين السّلطة الاشتراعيّة والسّلطة التّنفيذيّة وترجيح كفّة السّلطة التّشريعيّة، لأنّها تمثّل إرادة الشّعب تجاه الملك القابض على مقاليد الأمور وتجاه السّلطة التّنفيذيّة المستولية على وسائل القوّة.]
الخروج من بيروت
المكان: بيروت.
الزمان: 7 آذار 1948.
المناسبة: محاضرة في الندوة الثقافية.
المرجع: كتاب المحاضرات العشر.
في شهر آذار من العام 1948، وفي المحاضرة السابعة من محاضرات الندوة الثقافية، وفي معرض شرحه لمبدأ فصل الدين عن الدولة، وجوانب النزاع بين السلطة الدينية والإرادة العامة، يصل سعادة للقول: [والانتصار الفاصل في النزاع هو الذي حدث في الثورة الفرنسية. ومن هذه الثورة ومن الثورة الأميركانية التي سبقتها، نشأت فكرة الديمقراطية العصرية التي تعني في الأخير تمثيل الإرادة العامة في الحكم، جعل الإرادة العامة للشعب أو للأمة، الإرادة النافذة، ومرجع الأحكام. وقد انتصر هذا المبدأ انتصاراً نهائياً ولم تبقَ سوى جماعات قليلة ضعيفة الشأن لا تزال تعمل بالمبادئ السابقة، مبادئ السلطة الدينية. وسبب ضعفها هو تمسكها بهذا المبدأ الذي يعرقل حيوية الشعوب وحركة التقدم والارتقاء]
السؤال الآن: هل ما قاله سعادة في بيروت 1948، يناقض ما قاله في سانتياغو 1940؟ في سنتياغو الديمقراطيّة تعبيرية، وفي بيروت تمثيلية؟
مناقشة وتحليل: في سانتياغو، اعتبر سعادة أنَّ الديمقراطيّة في مأزق كبير، مأزق قد يؤدي بها إلى الهلاك، ما لم يصار إلى إنقاذها. إنقاذها يتمثّل بـ (التعبيريّة) تحديداً.
جاء انتقاد سعادة للديمقراطية العصرية في العام 1940، برأينا، في ظلّ ضغط العوامل التالية:
1-أزمة الكساد الكبير، التي وقعت فيها الدول الرأسماليّة، ابتداءً من الولايات المتحدة عام 1929، واستمرت مفاعيلها حتى الحرب العالمية الثانية.
2-وصول أنظمة فاشيّة إلى حكم ألمانيا وإيطاليا، وتسجيلها نجاحات اقتصادية، ومن ثم عسكريّة مع بداية الأربعينيّات.
3-رسوخ النظام الشيوعي، وفرضه واقعاً جيوسياسياً عملاقاً مع قيادة ستالين للاتحاد السوفيتي.
الدولة الفاشية، كما الدولة الشيوعية، كلتاهما، بكيفيات خاصة ومختلفة، ترتكزان إلى نظام مركزي صارم. ورغم وضعهما التفاضلي بالمقارنة مع (الدول الديمقراطية) المأزومة اقتصاديّاً والمهزوم بعضها عسكرياً (فرنسا…)، فإنَّ ذلك لم يدفع سعادة للتسليم للنظام الفاشي ولا للنظام الشيوعي، باعتبارهما وجهة المجتمعات القادمة، بل اعتبر أنَّ الديمقراطية، بسبب أخطائها البنيوية واستغنائها (بالشكل عن الأساس)، في مأزق كبير يهدد وجودها. واعتبر أنَّ (التعبيريّة) ستنقذها، وطالب (المفكّر السوري) بالاهتمام لـ (إنقاذ الديمقراطيّة من الهلاك). فسورية من أبدعت الديمقراطية، وإذا ما اهتمت بمأزقها، ستكون هي من تنقذها.
بالطبع، لا يحيل هذا التقييم إلى افتراض موقف سياسي لسعادة إلى جانب الدول الديمقراطية، بأية حال من الأحول. بل كان حينها يقارب الديمقراطية كنظام في تجلياته المجتمعية في الدول التي تأخذ به.
ما بين (نداء) سعادة لإنقاذ الديمقراطية في سانتياغو 1940، ومن ثم ملاحظته لاحقاً، أنّها (تبحث عن عقيدة – مقاله في الزوبعة في حزيران 1942) وإعلانه عن الانتصار النهائي لها في بيروت 1948، كانت قد انتهت الحرب العالمية الثانية، وانتصرت فيها دول الديمقراطيّة المأزومة إلى جانب الاتحاد السوفيتي، مقابل هزيمة دول المحور بنظامها الفاشي.
لكن أين كانت (تعبيريّة) سعادة في هذا السياق؟
ألقى سعادة خطابه في 8 أيار 1940، وبعد 40 يوماً تماماً، أي في 18 حزيران 1940، ألقى الجنرال شارل ديغول خطاباً، عبر هيئة الإذاعة البريطانية في لندن، أعلن فيه المقاومة على الاحتلال الألماني، وتأسست بالاستناد إلية حركة فرنسا الحرة. كانت فرنسا حينها المثال الأبرز الذي تُرى من خلاله الديمقراطية في أحد أقصى أزماتها حدةً.
برأينا، مثّل ديغول مع حركة فرنسا الحرة ما يعنيه سعادة بـ (الديمقراطيّة التعبيريّة)، فيما مثلت حكومة فيشي، الديمقراطية التمثيلية المستسلمة لواقع الهزيمة. واستكملت (التعبيرية الديغولية) بناء نظامها على أنقاض الجمهورية الرابعة، وتأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958، ومرة أخرى مع الجنرال ديغول، ومع دستور يمنح الرئيس صلاحيات واسعة ليعبّر عن (روح الأمة الفرنسية).
فكريّاً، كان كتاب (الطريق إلى العبوديّة)، الصادر عام 1944، لمؤلفه النمساوي – البريطاني فردريك فون هايك، قد أعطى شحنة ثقة استثنائية للفكر الرأسمالي المتعثّر بأزماته الاقتصادية والسياسية.
ومع الخامس من حزيران عام 1947، والاعلان عن مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبة، بدا وكأن (الرأسماليّة) بأنظمتها (الديمقراطية المعاصرة) التي تعود في ولادتها التاريخية إلى الثورتين الأميركية والفرنسية. بدا وكأنها قد استعادت الطريق نحو بناء مجتمعاتها وتمتين قوتها مجدداً.
هل دخلنا سانتياغو مع التعبيرية وخرجنا من بيروت مع التمثيلية؟
أبداً، والسرّ يكمن في هذه القاعدة التي يؤسس سعادة رؤيته للديمقراطية، بناءً عليها:
الدولة الديمقراطيّة هي دولة قوميّة حتماً.
إذاً، القوميّة شرط حتمي لوجود الديمقراطية. أي يجب حسم مسألة الهويّة ووحدة المجتمع لإنجاز الحقوق الموَّحَدة التي تقوم على مبدأ المساواة الكاملة لكل أفراد الشعب.
في هذا الوضع تماماً تصل التعبيرية إلى معناها الأخير، بكون الشعب بشخصيته القومية الواحدة ومجتمعه الواحد ونظام حقوقه الموحد، يعبّر عن إرادته مباشرة، عبر التمثيل السياسي.
دون تحقق هذا الشرط، تغيب الديمقراطية، ويحضر صندوق الانتخاب (التمثيلي) للواقع القائم بأمراضه وظواهره ما (قبل القومية): طائفية، مذهبية، إتنية…. (لبنان: نموذج عن هذا الصندوق). التمثيليّة، في الدولة القوميّة، تأخذ مضمون التعبيريّة، وعندما تتراجع الحالة القومية عن معناها، تعود التعبيريّة وحيدة لتمكين المجتمع من الانتقال من (الجمود) إلى (الحركة).
الحزب، هو حالة تستوفي شرط وجود الديمقراطيّة، بكونه (حالة قومية، أنجزت هويتها الموحدة ومجتمعها، وتأخذ بمبدأ المساواة الحقوقي لجميع أفرادها).
والحال على هذا النحو، ماذا تعني الانتخابات فيه؟
في الدولة القوميّة، التمثيل السياسي هو التعبير الأخير عن الإرادة العامة للشعب.
الحزب، جماعة واحدة، الانتخابات فيه هي الطريقة التي تعبّر عن إنتاج السلطة فيه، بما هي موقع في نظامه، وبما يؤكد إنتاجها من إرادة عامة. الانتخابات هنا بين مجموع أفراد (متفقين) على مشروع واحد، ومحتكمين للانتخاب لـ (اختلافهم) على من هو الأفضل لتحقيق نجاحات لهذا المشروع.
طبيعة الاتفاق الذي هو من مرتبة (الوحدة التامة) المميزة لجماعة الحزب، لا تسمح بوجود (اختلاف) يصنّف منهجيّاً في حقل الدولة. ولذلك تبدو الانتخابات في الحزب كعملية جوهرية في صياغة مواقع نظامية، لا يمكن إنجازها إلاَّ بهذه الطريقة.
وبكون الحزب، حالة تستوفي شرط وجود الديمقراطية، فهذا يعني، تلقائياً ودون وجود أدنى شكّ، أن مجموع الأعضاء فيه يعبّرون عن الإرادة العامة التي تتجلى فعلاً وحركة من خلال مؤسساته ومواقعه النظاميّة.
بهذا المعنى، ندخل من سانتياغو ونخرج من بيروت، مع التعبيريّة في حالتها الأخيرة، التي في حقل الدولة تتوسّل التمثيل السياسي للتعبير عن الإرادة العامة، وفي الحزب تتوسّل (التمثيل التفاضلي) للتعبير عن الإرادة العامة فيه.
أين أصبحت دعوة سعادة لإنقاذ الديمقراطيّة؟
كان سعادة يتطلع إلى أن تكون سورية هي مَن تنقذ وليدها: الديمقراطيّة، فماذا فعلت وماذا فعلنا لننقذها؟
ابتدعنا أسوأ أنظمة الاستبداد،
وأسوأ جماعات التكفير والإرهاب،
وأسوأ إقطاعيات وزعامات دينية، طائفية ومذهبيّة.
سورية، من منظار الديمقراطيّة، تبدو غير سورية التي ابتدعتها،
ولا يبدو أن الديمقراطية تمتّ بنسب قرابة لها!
أمّا، نحن، حركتك يا سعادة وحزبك؟
فقد تهنا بديمقراطيتنا، بدل أن نهتدي بها ونعلّم بفحواها،
نخترع لها الأقبية والدهاليز، فيما هي ساحات مشمسة ونور وضّاح،
(نُفتكِنُها – من الفاتيكان)، ونحشد لها جيشاً من الكرادلة!
نحتار بها ومعها. أبحرنا على سفينة تائهة / ضائعة لا تعرف كيف تستدل إلى مينائها لترسوا فيه وتنزل أشرعة الضَياع؟
من القساوة البالغة، أن نكون نحن، من نمثّل أسطورة (الهولندي الطائر)!
فيما الديمقراطية المعاصرة، أنقذت نفسها، مرات ومرات…
مرةً، بـ (الحوكمة) التي نقول إنها راسخة في دستورك منذ 70 عاماً،
ومرةً، بوصولها إلى ما يسمى بـ (الديمقراطيّة التشاركيّة) أو الاجتماعية، التي نقول إن مرسومك الرابع كان قد وضع أسسها، والذي لا مكان له عندنا!
ومرات، بما تبتدعه وتجدده مع مجتمعاتها التي تخطط لتدشين منازلها التي ستقيمها في الكواكب الأخرى، ابتداء من العام 2024، فيما نحن لا زلنا نتعثر بظلام اخترعناه لأنفسنا، يضيّق علينا وطننا، الذي لو عرفنا كيف ننشر فيه نور نهضتنا، لكنّا الآن مع الذين يعدّون رحالهم للسياحة في المريخ.
سانتياغو… يا سانتياغو، شرف الصراع لا يكفي!
في رواية الشيخ والبحر، لأرنست همنغواي، الشيخ واسمه سانتياغو، (للمفارقة على اسم تلك المحطة التاريخية لأنطون سعادة)، ذهب بعيداً في عرض البحر، وبعد صبرٍ عظيم وطويل، اصطاد سمكة ضخمة تمثّل حلم حياته، وبدأ بجرّها نحو الشاطئ بصعوبة كبيرة. في الطريق، خاض صراعاً مريراً مع أسماك القرش التي أخذت تهاجم سمكته / حلمه. لم يستسلم أبداً، ظل يقاتل إلى أن وصل الشاطئ.
لم يبق من السمكة إلاَّ الحسك!
فاز سانتياغو بشرف الصراع وخسر سمكته… فقد حلمه.
نداءٌ إلى الشباب:
قد نمثّل (نحن: كل من يعتبر نفسه من جيلٍ ما)، الشيخ سانتياغو…
قاتلنا دائماً وجاهدنا وفزنا بشرف الصراع…شرف الصراع وحسب.
أنتم، عليكم أن تقاتلوا لتفوزا بشرف الصراع وتحقيق الحلم.
لا تدعوا أسماك القرش تلتهم حلمكم.
أستقولون لنا بعد حين:
لم يُوجد العقل الإنسانيّ عبثاً؟
الأول من آذار 2021.