23 نيسان/1989 – 23 نيسان/2020
نعم إحدى وثلاثين عاماً مضت على غيابي عن أهلي وأصدقائي في بلدتي عين داره وعن وطني لبنان. هكذا وعلى غفلةٍ من الزمن حزمت حقائبي وتجاربي ومكتبتي ومهنتي في التعليم وغادرت عبر مطار دمشق إلى وطني الجديد كندا.
ما أذكره جيّداً قبل تلك الرحلة، هو ذلك الاتصال الهاتفي من السفارة الكندية في دمشق لإبلاغي بأنّ الڤيزا جاهزة وما عليّ إِلَّا الحضور لاستلامها. وهكذا كان، قصدت السفارة في اليوم التالي واستلمت الڤيزا بأيدٍ ترتجف من المجهول، وغادرتُ إلى شوارع دمشق متجوّلاً، عيناي تسكبُ دمعاً دون إذن، وفي عقلي ومخيلتي تتزاحم الأسئلة الصعبة.
إلى أين أيُّها الشقيّ؟ إلى أين؟ أنت الذي يحاضر في الوطنيّة والقوميّة والتعلّق بالأرض!!!!
أنت الذي انزَرَعْتَ في تراب أجدادك كشجرةِ زيتون في فلسطين، معانقاً الوطن حتى الثمالة، عروقك امتدادٌ لعناقيد الكرمة في سهل البقاع، وبصرك يُحدّق في أرز جبل الباروك متمتّعاً بشموخه وجماله.
إلى أين أيُّها العندليب الأسمر؟ الوطن بحاجةٍ إليك وإلى أمثالك.
أجبت مستشهداً بقولٍ مأثور للإمام عليّ: “الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن.”
قالوا “عُذرٌ أقبح من ذنب”. فطلبت المعذرة وغادرت، وكانت رحلة العمر.
أصدقائي راهنوا فيما بينهم على أنني سأعود وأنّه لا يمكنني التأقلم خارج حدود وطني وأهلي، خاصةً وأنني سبق وحاولت مراراً إلى الاتحاد السوڤياتي وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية. غير أنّ هذه الرحلة لم تكن كسابقاتها، ذلك أنّ سفينتي مزَّقت أشرعتها وألقت مجاذيفها في مياه المحيط، وانضمّ قبطانها إلى بحّارة كريستوف كولومبوس وأتباعه وأحفاده من الذين اغتصبوا “العالم الجديد” وأبادوا شعوباً وأمماً وحضارات.
وها نحن اليوم في هذا “العالم الجديد”، نعيش على ذكريات الأمس. بيروت تسكن في حواسنا الخمس، والجسد الفلسطيني متمنطق بكوفيّتهِ ومقلاعه وحجارته يدافع عن كرامة الأمّةِ جمعاء. وفي الشام والعراق ندوبٌ لا تندمل ومصيرٌ مجهول لأطفال يدبدبون نحو المستقبل، وعالم عربيّ يجِفُّ فيه النفط بعد أن جفّت عروقه من النخوة والكرامة.
وها هو ” الكورونا” يتمختر دلعاً في قرانا ومدننا وأحيائنا، ليضيف على تحدّيات الوطن والغربة تحدّياً أشدّ لؤماً وبشاعةً وغدراً، حتى غدت الحياة تأرجُحاً بين الحلم والواقع، كما تحوّلت “شرعة الحقوق الكنديّة” إلى مزحة سمِجةً لا مكان لها من الإعراب”
فأين هي “حريّة القول” وشفاهنا تكاد تفقد القدرة على التمتمة!
وأين هي “حرّية الرأي والتعبير” وعقولنا غارقةٌ في غسل اليدين وأدوات التطهير والتعقيم!
وأين هي “حريّة الاجتماع” ومسافة المترين افترشت قواميس العالم ولغاته.
وأين هي “حريّة التظاهر السلمي” في زمنٍ اقتصر فيه الخروج من الحجر الصحّي على شخصين!
وأين هي “حريّة المعتقد” وقد أصبحنا أسرى التقارير اليومية لقيادات “المرجعيّات الصحيّة”!
إلى أين بعد الوطن والاغتراب والكورونا؟
سأحتفل اليوم في السنة الواحدة والثلاثين أنا وعائلتي في هذا البلد الجميل “وطني الثاني” كندا، أميناً على قضايا أهلي ووطني وأمّتي وشعبي ومُردّداً مع جبران خليل جبران الذي أقرأ مجموعته الكاملة في زمن الحجر المنزلي: “إنّ أروع وأجمل هندسة في العالم، أن تبني جسراً من الأمل على نهرٍ من اليأس.”
فتعالوا معاً لنتعاون على بناء هذا الجسر.
0 Comment
احببت هذا المقال، انه يشبه ما حدث معي الى حد كبير… ما عدى “وطني لبنان” فأنا سوري ووطني هو سورية كلها وليس فقظ لبنان.