في 30 أيلول سنة 1989 توصل القادة السياسيون اللبنانيون إلى صيغة تسوية للحرب الأهلية اللبنانية باتت تعرف بـ”اتفاق الطائف” نسبة إلى المدينة السعودية التي عُقد المؤتمر فيها برعاية دمشق والرياض. وفي 5 تشرين الثاني صدق مجلس النواب على الاتفاق، غير أنه لم يدخل حيز التنفيذ الفعلي إلا بعد إنهاء “حالة” قائد الجيش الجنرال ميشال عون الذي كان قد رفض التسوية مصرّاً على التمرد العسكري في القصر الجمهوري. لكن هذه “الحالة” لم تستمر طويلاً حيث تمكنت القوات الشامية من السيطرة على الوضع في 13 تشرين الأول سنة 1990 بتغطية إقليمية ودولية.
ليس هدفنا في هذا المقال التأريخ لتلك الفترة بقدر ما نسعى إلى تبيان الطريقة التي طُبق بها بعض بنود الاتفاق، خصوصاً لجهة إعادة بناء الطبقة الحاكمة على أنقاض النظام السياسي الفاشل الذي كان من المفترض أن تكون الحرب الأهلية قد أزالته إلى غير رجعة. والبند الذي يعنينا هنا هو تشكيل الحكومة الأولى بموجب اتفاق الطائف لأنه مؤشر دقيق إلى التوجه الداخلي الذي رسم صورة النظام السياسي في الكيان اللبناني حتى اليوم.
الفكرة التي انطلق منها رعاة الحل السياسي في لبنان هي تشكيل حكومة ما بعد “اتفاق الطائف” من زعماء وقادة المليشيات التي خاضت الحرب الأهلية، على أساس أن وجودهم جميعاً حول طاولة مجلس الوزراء يعني ضبط الساحة الأمنية بشكل كامل. وهذا ما حصل في الحكومات الثلاث الأولى بعد الطائف برئاسة سليم الحص وعمر كرامي ورفيق الحريري على التوالي. وقد ترسّخت قاعدة توزير “زعماء المليشيات” بحيث باتوا يشكلون الطبقة السياسية الوريثة لطبقة أزاحها “اتفاق الطائف” من الصورة. غير أن هذه القاعدة تجاهلت عمداً واقع أن المليشيات هي مظهر تقسيمي داخلي لأنها تمثل الفسيفساء الدينية أو الطائفية أو العرقية في المجتمع. (باستثناء حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي لاعتبارات خاصة قد نعود إليها مرّة أخرى).
قبل ثلاثين سنة نشأ النموذج الحكومي التالي في لبنان: إدارة مركزية فضفاضة ذات صلاحيات مقننة تشكل مظلة جامعة لمليشيات تحتكر السلطة على الأرض، أو على الأقل تشارك الإدارة المركزية في ممارسة تلك السلطة. وفي أحيان عديدة يتم استخدام قوة الشارع “المليشياوي” لفرض إرادة هذا الطرف أو ذاك على الحكومة. ويبدو هذا النموذج راسخاً في وضعه الراهن، طالما أن البنود الأخرى من “اتفاق الطائف” مؤجلة حتى إشعار آخر. ونحن نعتقد بأن القوى المعنية بالشأن اللبناني غير مهتمة بتغيير المعادلة الحالية، بل هي تسعى إلى جعلها النمط السائد في أمتنا وعالمنا العربي.
فلننظر الآن إلى ما يحدث في اليمن والعراق وسوريا وليبيا والسودان وفلسطين في هذه المرحلة العصيبة، ليس على المستوى السياسي ـ الأمني فحسب وإنما على مستوى نشوء القوى الفاعلة ودورها العملي على الأرض. لن نتوقف طويلاً عند عوامل الصراع الإقليمي في الخليج العربي بين السعودية وإيران، أو التدخلات والمنافسات الإقليمية والدولية في منطقة ذات أهمية استراتيجية قصوى. وليس من الضروري الإشارة إلى المواجهة المصيرية بين تيار المقاومة ورفض الحلول الاستسلامية من جهة ومحور التسوية الإسرائيلية التي تروّج لها الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى. فهذه القضايا هي السياق العام الذي يشهد على نشوء “دولة المليشيات” في أنحاء عدة من العالم العربي.
عقود. القاسم المشترك الذي يجمعها، ونعتبره خطراً داهماً ودائماً قد تهون عنده المخاطر الأخرى المحدقة بأمتنا وعالمنا العربي، هو أننا دخلنا زمن “دولة المليشيات”. إنه زمن تفصيل المجتمعات على مقاس الجماعات المسلحة، فتدخل الأمة أو الدولة مراحل متواصلة من الصراعات الأهلية التي يتناسل بعضها من أرحام بعضها الآخر وفق مخططات خارجية مرسومة.
في لبنان سلطة مركزية ومليشيات حاكمة. في العراق سلطة مركزية إئتلافية وحولها مليشيات مذهبية وعرقية مقاتلة (بعضها أنشأته وتدعمه القوات الأميركية). في سورية الشام حزب مركزي حاكم ومعه قوى رديفة (مليشيات عملياً) تقاتل “معارضة” هي عبارة عن مليشيات تدعمها وتمولها تركيا وبعض الدول الخليجية. في اليمن لا توجد سلطة مركزية بل مليشيات ترتبط بمصالح إقليمية. أما في ليبيا فالفوضى مسيطرة تماماً، والفراغ تملأه مليشيات لا تعد ولا تحصى. وفي السودان جاء الاتفاق السياسي لأنهاء الأزمة بتوافق مبدأي بين أطراف بعضها ذو نزعات “مليشياوية”.
وقد لاحظنا في السنوات القليلة الماضية أن بعض الدول التي لا توجد فيها “مليشيات”، لكن يحكمها منفرداً “حزبٌ قائدٌ”، كانت توظف قطاعات من هذا الحزب في مواجهاتها الداخلية أو تغض النظر عن ممارساتها “المليشياوية” في التصدي للمعارضة وقمعها. وفي هذه الحالة نصبح أمام “مليشيا” حاكمة وأخرى معارضة قيد النشوء بانتظار الظروف المناسبة.
ويبدو أن التجربة اللبنانية في نقل “المليشيات” من الخنادق والميادين إلى أروقة الحكم والسلطة باتت نموذجاً يُقلد في المنطقة وخارجها. قد ينجح سريعاً في بعضها وقد يستغرق وقتاً دموياً أطول في بعضها الآخر. لكننا الآن في صميم زمن “دولة المليشيات”. وهو مسار متشابك مع قضايا إقليمية ومحلية معقدة، وسيؤدي حكماً إلى ترسيخ الفسيفساء الاجتماعية المتناحرة في أمتنا والعالم العربي، حيث لكل جماعة طائفية أو عرقية “مليشيا” تحميها وتدير شؤونها وتتعامل باسمها مع الآخرين من ضمن “فيدرالية المليشيات” المركزية!