تقديم وترجمة الشاعر الراحل سركون بولص
لكل قصيدة، من بدء تاريخ الفن الشعري إلى يومنا هذا، ومضيّاً في المستقبل إلى آخر قصيدة يكتبها شاعر، هدف واحد لا غير: أن تمسّ تلك العاطفة التي عصفت بوجدان شاعر ما، في زمنه المؤقت المحدود، وجدان الآخرين في الحاضر ولكن ايضاً في المستقبل اللانهائي. إنها كبسولة زمنية معبأة يطلقها الشاعر، أو الشاعرة، في المجهول بلا ضمانات سوى كونها استوفت شروط موضوعها وحددّت له أبعاده الضرورية بتفصيل تدعمه التجربة.
هذا مل يفعله الشاعر السومري المجهول الذي كتب “دعاء من أجل نيبور المخرّبة”، وهي قصيدة معروفة من نسخة تعود إلى 1700 قبل الميلاد تقريباً وتنتمي، كما هو مكتوب في تعريف ملحق بالقصيدة، إلى نمط شعري يسمّى “إرشما” أي مرثية تُتلى على إيقاع الدفوف. وقد ترجمها إلى الإنكليزية ثوركيلد ياكوبسون عالم الأشوريات المعروف عن النص المسماري الموجود في المتحف البريطاني ضمن مجموعة “نصوص مسمارية من الرقم البابلية
نيبور هي المدينة السومرية المقدسة وإلهها إنليل (أبو الآلهة) خان عهده بأن يحميها من قوى الشر والدمار ونفّذ فيها مرسوم المجمع الإلهي حتى لو كان معنى ذلك تسليم مدينته إلى أعداء لا يرحمون. في القصيدة، يُرى إنليل (أو الحاكم) عاجزاً عن النظر إلى دماء مدينته وآلام شعبه. وهكذا يدير إليهم ظهره ويتظاهر بالنوم. يسأله الشاعر أن يستدير وينظر إلى المدينة المنكودة من أيّما جزء من معبده “الإيكور” ومبانيه المختلفة التي يسكنها والتي يعددّها الشاعر بأسمائها وصفاتها، واحدة واحدة، قبل أن يصف الخراب الذي حلّ في كل مكان. وبذلك يجبره على الرؤية حتى لو لم يستدر وينظر إلى ما جرّه قراره على شعبه من الويلات. لقد دمّر
ولشدة صدقها التفصيلي، وحرقتها المضمرة في أبياتها المتكررة حتى الهياج، وصوت الشاعر التحريضي النادب المرير، ومعايشته المباشرة لأحداثها، تكاد هذه القصيدة التي أطلقها شاعر سومري مجهول في عماء الأزمنة أن تحيلنا بعد أكثر من ثلاثة آلاف ونيّف من السنين، إلى وضعنا الحالي في العراق المنكوب، أرض سومر بالذات حيث ما زالت نيبور أو “نفر” قائمة في موضعها الأصلي، سواء جاء الخراب عن طريق الطوفان أو الحصار الاقتصادي وصواريخ التوماهوك، أو صلاة طاغية أرعن كإنليل الجبان لا يستدير مرّة واحدة “لينظر إلى مدينته” من شرفة أحد قصوره الباذخة العديدة.
دعاء من أجل نيبور المخرّبة
إلتفت إليها أيها الفاضل
وانظر إلى مدينتك
إلتفت أيها الفاضل القدير
وانظر إلى مدينتك
إلتفت أنت يا ربّ كل الأراضي
وانظر إلى مدينتك
إلتفت يا ربّ الكلمة الأخيرة
وانظر إلى مدينتك
إلتفت يا إنليل يا أبا البلاد
وانظر إلى مدينتك
إلتفت يا راعي الشعب الفاحم الشعر
وانظر إلى مدينتك
إلتفت أنت يا من تخشى أن تفتح عينيك
وانظر إلى مدينتك
إلتفت أيها الراعي الذي يترك قطعانه تتيه
وانظر إلى مدينتك
إلتفت أنت يا من يتظاهر بالنوم
وانظر إلى مدينتك
إلتفت نحو مدينتك، نحو نيبورك
وانظر إلى مدينتك
إستدر عن أسوار “إيكور”
وانظر إلى مدينتك
إستدر عن مستوى أرضك وعن سبيلك
وانظر إلى مدينتك
إستدر عن “دوكوك” المكان المقدس
وانظر إلى مدينتك
إستدر عن مخدع نومك المظلم
وانظر إلى مدينتك
إستدر عن البيت ذي البوابة الكبيرة
وانظر إلى مدينتك
إستدر عن أهراء المؤونة
وانظر إلى مدينتك
إستدر عن ملاذ “غيشووا”
وانظر إلى مدينتك
إستدر عن ملاذ “إيغالما”
وانظر إلى مدينتك
إلى مدينتك الغريقة، المضروبة بالطوفان
إلى مدينتك التي ضربتها أنت بالطوفان،
واهلكتها بواسطة المياه أنت بالذات!
مدينتك، حيث صارت كل حبّة من الشعير
تُكال بعناية في الموازين.
وبعد نهار لم تأكل فيه شيئاً
تنتحب تلك التي كان لها زوج شاب
حيث عثرت على جثته:
“واهاً عليك يا زوجي”!
تلك التي كان لها ابن يافع
تندب هناك:
“أواه يا ابني”!
تصيح الفتاة هناك:
“ويلاه يا أخي”!
وفي المدينة تعوّل الأم التي أنجبت:
“آه يا ولدي، يا كبدي”!
البنت الصغيرة تصيح هناك:
“أبتاه”!
الصغار يجنّون، الكبار يجنّون
منذ أن ولى هارباً مَنْ كان يقف في الطرقات
وجاءت الكلاب
تتدلى من فكوكها ذكور الرجال!
الذئاب حرّة في المجيء والذهاب
تتدلى من فكوكها أعضاء رجال ونساء مبتورة!
وفوق أماكن رقصهم
تعصف الرياح!
نقلاً عن مجلة “عيون”. العدد الثالث، السنة الثانية ـ 1997.