قبل عشرين سنة تقريباً، وقف الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش (الإبن) ليعلن “إنجاز المهمة” وتحقيق الانتصار على “الإرهاب” المتمثل بتنظيم “القاعدة” في أفغانستان. واليوم، بعد كل الأحداث العاصفة التي كانت الولايات المتحدة عنصراً أساسياً فيها، يتبارى مسؤولو إدارة الرئيس دونالد ترامب في تأكيد “تدمير بنية دولة الخلافة الإسلامية في سوريا والعراق” وتحقيق الانتصار على “الإرهاب” المتمثل بتنظيم “داعش“.
طبعاً هناك فوارق سياسية وعسكرية بين إعلانيّ كل من بوش وترامب. إلا أن العنصر البارز فيهما معاً هو تجاهلهما لطبيعة التنظيمات الإرهابية الناشطة في العالمين العربي والإسلامي وقدرتها على التبدل والتأقلم مع المستجدات الميدانية. وهذا الأمر يُعرقل مهمة القضاء عليها إذا لم تُؤخذ في الاعتبار مجموعة من “المزايا” الخاصة التي تتمتع بها غالبية جماعات “الإسلام السياسي التكفيري”. صحيح أن مراكز الدراسات الغربية شدّدت على ميزتين هما: الخلفيات الفقهية للتكفيريين، ثم وجود البيئة الحاضنة لهم. إلا أنها في المقابل تناست، عن سهو أو عن خبث، عنصرين آخرين أكثر أهمية هما: الدور الوظيفي لهذه الجماعات، ثم وجود قوى إقليمية ودولية قادرة على استخدام أية مجموعة بهدف تعزيز مصالحها الخاصة.
النزعة التكفيرية في الإسلام عمرها من عمر “الفتنة الكبرى” التي اندلعت بعد وفاة النبي، وبدء الصراع القبلي على السلطة. لكن وجود هذا الفكر لا يمكن لوحده أن يعطينا تفسيراً دقيقاً لكل ما شهدناه خلال العقود الأربعة الماضية. وحتى لا نغرق في تفاصيل موغلة في القدم، نقترح العودة إلى أفغانستان بعد التدخل العسكري السوفياتي في سبعينات القرن الماضي. فقد قامت الخطة الأميركية-الأطلسية آنذاك على استنزاف الجيش السوفياتي في المستنقع الأفغاني، تماماً على غرار ما حدث للقوات الأميركية في المستنقع الفييتنامي. وهكذا تم توظيف “جماعات الإسلام السياسي”، بغض النظر عن فكرها التكفيري، في معركة إنهاك الاتحاد السوفياتي كجزء من الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي.
وقد تطلّب هذا التوظيف انخراط قوى محلية إلى جانب الولايات المتحدة. فكانت باكستان المجاورة لأفغانستان قاعدة التدريب والتسليح والحماية، بينما تولت التمويل والتحريض الديني بعض الدول الإسلامية خصوصاً في منطقة الخليج العربي. وتكشف لنا أدبيات تلك الفترة كيف أن أبرز المراكز الدينية في العالمين العربي والإسلامي كانت جاهزة عند الطلب لإصدار الفتاوى اللازمة لدعم “الجهاد” في أفغانستان. والملفت للاهتمام آنذاك أن “المجاهدين العرب” اعتبروا أن المعركة في أفغانستان ضد السوفيات أهم بكثير من الخطر الوجودي الذي تمثله “إسرائيل” على المنطقة برمتها. بل أن أحد أبرز قادة ومنظري “المجاهدين” كان الفلسطيني عبدالله عزام الذي حوّل بوصلته عن الوطن السليب إلى “أوطان” أخرى نائية!
ولا تختلف تجربة “الإسلام السياسي التكفيري” في بلاد الشام عن سابقتها في أفغانستان. فبغض النظر عن مسمياتها المتغيرة حسب الظروف، برز هنا أيضاً الدور الوظيفي لهذه الجماعات، إذ لا يمكن استيعاب كامل صورة ما جرى في سوريا والعراق إلا من خلال النظر إلى المخطط المرسوم لهذه المنطقة. فالفكر التكفيري جاهز، والبيئة الحاضنة موجودة بشكل أو بآخر… وكل ما يتبقى هو الدعم الإقليمي. هذا ما قامت به تركيا الأردوغانية بتمويل من بعض دول الخليج العربي، وتحت إشراف أميركي-أطلسي- أوروبي شامل. إن أعمى البصر والبصيرة هو من يعتقد بأن سيطرة “داعش” على أجزاء واسعة من سوريا والعراق إنما تمت بقدرات “خارقة” لهذا التنظيم. أبداً! لقد ظلت تركيا على مدى خمس سنوات الحاضن الحنون لكل الجماعات التكفيرية من الموصل إلى الرقة، ومن حلب إلى إدلب.
لن نتناول الآن الأسباب التي أدت إلى تغيّر الظروف المؤاتية للجماعات