خشخاشُ الفصاحة

Share

نربّي اللغةَ في المزهريات، نهزّ رؤوسنا دهشةً من بلاغة القول في خطابات الشيوخ والسياسيين.. تُربّينا اللغة من خلف المايكروفانات، مثل كائناتٍ مصابة بالتوحُّد، نصبحُ ألفاظاً في عبارات المسؤولين وهم يرددون كليشيهات الخمسينيات ويراهنون على الغنائية في الإلقاء كي يثبّتوا “سحر البيان” في الأذهان المستسلمة لطاعون المعجم..

نربّي اللغة في صحون الأيديولوجيا، عندما يصعد عبد الناصر على المنبر وتبدأ الجموع بالهتاف والصراخ انسجاماً مع الموسيقا في الإلقاء، ثم يدوخون بعد أن يشموا خشخاش الفصاحة ويعتقدونه العلاج الأخير للشعوب الغارقة في الأمية والتخلف والأديان!

نربّي اللغة في خديعة الإلقاء، ثم نتورط أكثر كلما ارتفعت حماسةُ البحر الطويل في مدح الرجال بما ليس فيهم، فالقصائد شريكة مع أصحاب اللحى وأطقم السفاري وربطات عنق المعاني، حيث الحروفُ الآثمة تقودُ الفرق النحاسية بصخبٍ مع كلاسيكيات الذائقة الجاهلية التي شكلت هذا الحلف الثلاثي الخطير بين الدين والسياسة واللغة..!

نربّي اللغة في أحضان المرجعيات، حيث الفكرة تنتحرُ لأجل الأسلوب، ولا يبقى من المعاني سوى كتالوكات جاهزة من الألفاظ تشبه البراويظ المخصصة لجعلنا محدودين في المخيلة، مكرسحين في الاحتمالات، أما من يشبُّ فوق الأسْرِ، فيتولاه المعجمُ عندما يستحضرُ الأسلافَ بطريقة “قال فلان عن فلان”، ثم يمهر النصّ بخاتم التأويل الغيبيّ حيث لا خيار للأذهان سوى الانسياق والتطويع مع الجمع الذي “يَرِدُ البحيرةَ” بكامل الإذعان!

نربّي اللغةَ على غزل ليلى العامرية، نحدق في العيون الحور ونستسلم للغرام وهو يستورد نصوص قيس بن الملوّح، نعشق المحبوبة نفسها مع تعديل بسيط في رائحة التسريحة والعطر.. اللغة الآثمة تكرر التجربة ذاتها وتعاقبُ كلَّ عاشق يشاءُ أن يغرّد خارج القلوب التي تهدمت عند أطلال بيوت الشعر، عندما رحلت الحبيبة بحثاً عن المرعى في صحارى الجزيرة العربية!

نربّي اللغة في صمت التواطؤ، في هزِّ الرؤوس استناداً إلى الموسيقا في اللحن عندما تبدأ القوافي بسحر العقل وتتركه مضرجاً بالهول من العبارات الطنانة العارية من المعنى، يقول البشر: “يا أخي هذا الشخص متحدث”، في إشارة إلى متعة الاستسلام للسماع دون الإدلاء برأي يمكن أن يوقظنا من الإدمان على خشخاش الفصاحة وهو يتحول إلى قاتٍ في “كيلونِ” الأمة المسلوبة بالماورائيات القادمة من خلف خط الرمل الذي لم يجده ساطع الحصري في صحراء النفوذ!

نربّي اللغة في دراخيش البلاد، في تأويل سذاجة النصوص المتصارع على عباءتها الملطخة بالإثم، لنصبح الشعوب الوحيدة بين البشر التي لا تملّ وهي تكرر عبارة: “عن فلانٍ قال فلانٌ”، ويتفاقم الأمر أكثر عندما تنشئ اللغةُ معاجم هامشية على هامش القاموس الأب، إمعاناً في الحماية وتبديداً لأية جهود يمكن أن تفكر بنسف الألفاظ إذا ما اكتشف البشر أن الداء يكمن هنا بالضبط!

نربّي اللغة في حواكير القومية العربية، في مواعظ الدين والقصائد المكتوبة على وقع أقدام الناقة والبعير، يأخذنا البيانُ ونستقيلُ من “التبيين”، نتلاشى في النقلِ على حساب العقل.. وبعد كل هذا، نستغربُ كيف حلَّ الوباءُ في البلاد! عرفتوا كيف؟

0
0