ونقصد بالمركز السلطة المركزية، كائنة ما كانت. نادراً ما يحدث الانهيار فجأة أو مرة واحدة. غالباً ما تسبقه مراحل من الفساد والاستغلال والوهن، فتبدأ الأطراف بالاستقلال، والكفاءات بالهجرة، ويشتد القمع والتشديد وإقصاء المعارضين، ويبدأ الانتهازيون باقتناص الفرص لتجيير قسم من مصالح المؤسسة لأنفسهم، فتتسارع وتيرة التصدع المؤدي إلى الانهيار. وفي بعض الأحيان يتأخر الانهيار التام، وذلك بسبب قوى خارجية ذات مصلحة في تفادي حصوله، فتقوم بتدعيم ما بقي من السلطة المركزية، لا حباً بها بل بسبب مصالحها هي. وفي مثل هذه الحالة نجد أصحاب السلطة لا ينتهزون فرصة الدعم الحاصل لإعادة البناء واستعادة الكفاءات، بل لترسيخ الوضع الراهن بما يضمن عدم الانهيار واستمرار المصالح الخاصة بالنمو في ظل هذا الوضع.
في المنظمات العقيدية، أي تلك التي تدعو الناس للانخراط في صفوفها بسبب عقيدة معينة تنطلق منها لتحقيق غاية ذات طابع تغييري جذري، يأخذ هذا المسار منحى يختلف عنه في المؤسسات التجارية. فالذي يتوظف في شركة يستمر فيها طالما أن العوامل التي جذبته قائمة. فإن تغيرت، قد يبدأ بالبحث عن مؤسسة أخرى يجد فيها ما يلبي طموحاته الشخصية. أما في المؤسسات العقيدية فهناك عامل إضافي قوي وأساسي هو الرابط الوجداني.
إن تفاعل الإنسان مع عقيدة معينة يخلق رابطاً مع الغاية التي من أجلها وضعت هذه العقيدة فتصبح مثالاً أعلى له، ويخلق العمل لتحقيقها رابطاً بينه وبين بقية الأعضاء. فتنشأ عصبية جديدة منطلقها العقيدة الجامعة ووجهتها الغاية العليا، فيتعاضد الأعضاء ويقدمون التضحيات في سبيل انتصارها. والمثال الأعلى لا يمكن أن يكون شيئاً مبهماً، إنه شيء حسي، مثل تحسين الحياة في المجتمع ورفع الظلم ونشر العدالة الاجتماعية، أو التحرر من محتل، أو انتزاع الاستقلال أو إقامة نظام جديد
.
تنهار المؤسسات التجارية لأسباب شتى كعدم مواكبة السوق، أو المنافسة، أو سوء الإدارة. أما المنظمات العقيدية، فإن أخطر ما تواجهه هو الانحراف عن غايتها أو إهمالها لأنه يصيبها مباشرة في مقتلها، الرابط الوجداني الذي يربط الأعضاء بعقيدتهم وببعضهم بعضاً. وحين يُضرب هذا الرابط وتنهار السلطة المركزية يحصل أمران: التبدد، فمحاولة الاستقطاب.
لا يتخلى أعضاء المنظمة العقيدية إجمالاً عن مثالهم الأعلى بسهولة حتى في حال التبدد. التعبير عن هذا المثال هو الذي يتغير. هناك من ينكفئ إلى بيته يائساً صامتاً محبطاً حافظاً مثاله في قلبه. وهناك من يستمر في محاولات الإصلاح من داخل المؤسسة مع معرفته التامة باستحالة ذلك. آخرون يعبرون عن سخطهم بالسخرية المرة أو الشتائم. وهناك من يستمر في البناء داخل المنظمة غير آبه بالخراب الهائل المحيط به، ولا بهشاشة الأعمدة التي يقوم عليها بناؤه الجديد. وهناك من يتجه إلى تأسيس مؤسسات تعنى بالفن أو الأدب أو الأعمال الخيرية أو الثقافية، فينشغل بها. وهناك من يتجه إلى العمل مع منظمات أخرى يرى فيها قرباً من منظمته الأساسية. وهناك من لا يرى أن ثمة أخطاء على الإطلاق، فيصب جام غضبه على المحبطين والخارجين والناقدين متهماً إياهم بنشر غسيل المؤسسة الوسخ! وهناك من هو مقتنع أن القضية التي قامت من أجلها المنظمة هي الأساس، وأن المنظمة ما هي سوى وسيلة لهذه الغاية، فيعملون من ضمن هذه القناعة لوقف التبدد واستقطاب القوى.
ولكن وقف التبدد والاستقطاب ليسا بالعملية السهلة. فمع انهيار السلطة المركزية لا يعود هناك من مرجعية واحدة، بل مرجعيات. فلسوف يجتمع أعداد من المخلصين لهذه القضية في تكتلات يعرف فيها بعضهم بعضاً، ويثق بعضهم ببعض نتيجة صداقات وتاريخ من الصراع المشترك. ومن الطبيعي، نتيجة التجارب المرّة مع القيادات المنحرفة، أن يحاول هؤلاء وضع الضوابط لمنع الانحرافات، فيتشدد بعضهم عقيدياً لدرجة الغلو، وتزداد عصبية التجمع بحيث يكون هناك شك فيمن هم خارجه، ويهزأ بعضهم بعناصر من تجمعات أخرى تعمل هي أيضاً لإعادة التأسيس كما ترى مناسباً. بل إن بعضهم قد يذهب إلى “الجيلية”، فيضع مسؤولية الفشل على جيل بأكمله، فيرفض كل من هو في عمر معين بغض النظر عن خبرته وإخلاصه. ومن المشاكل الأخرى التي تعاني منها مثل هذه التحركات فقدان البنية التنظيمية والمرجعية الحاكمة، فنرى هذه التكتلات تنقسم على ذاتها وتتوالد، وتعلو أصوات الخلافات بين أعضائها.
هذا الوصف لمسار ما بعد انهيار السلطة المركزية واضح لأي دارس لتاريخ تشظي الحركات الدينية منها والعلمانية. إننا نراه في تشعب المذاهب الدينية من يسوعية ومحمدية ويهودية وفي الحركات العلمانية من شيوعية وعروبية وقومية.
نعود إلى النقطة الأساس لمن يتوخى وقف التبدد واستقطاب القوى فنقول: القضية هي ما يجب أن يجمع الأعضاء. والقضية، أية قضية، تُختصر بعقيدتها وغايتها. فإذا كانت نقطة الانطلاق واحدة، والغاية واحدة، ينطبق عندها على هذه التحركات القاعدة الهندسية المعروفة بالخطوط المتزامنة او المتطابقة Ligne coïncidant. أي أنها حركة واحدة، وإن تباينت الأساليب. فإن لم يكونا، فهذا يعني وجود تضارب إما في المنطلق أو في الغاية فتجوز المراجعة لمعرفة الخلل. طبعاً، تبقى هناك عوامل مهمة تفشل الاستقطاب كالنزعة الفردية والباطل المتستر بلباس الحق. وهنا يصح القول: “من ثمارهم تعرفونهم. هل يجنى من الشوك عنب؟”