على قدر ما أعلم علم اليقين بنبل مقاصد الأمين زهير فياض من مقالته “لنعط الجيل الجديد في الحزب فرصة“، ويدعو فيها إلى تسليم زمام المسؤولية إلى “الجيل الجديد”، كما وضمّنها العديد من الآراء والحقائق التي لا بدّ من الاعتراف بوجودها وضرورة التعامل معها، أجد نفسي ملزماً بالإضاءة على بعض النواحي في هذا المجال، ليس من باب الرد، بل ضمن إطار التحاور بين رفقاء الدرب.
مفهوم “الجيل الجديد” ليس مفهوما ذا علاقة بالسن أو أنه يُعنى بمواجهة ممارسات “المسنّين” والتضاد معها. الجيل الجديد عندنا هو ما له علاقة وطيدة بالنظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن والجمال. وهو الإطار الاجتماعي الذي يضم، فيما يضمه، رؤى تجديدية تنسف التقاليد الرثة و”المفاهيم” المشتتة للمجتمع، هو التعبير عن الانفتاح والتفاعل الحضاري وتخطي الحواجز المجزّئة للمتحد وتجاوزها. ومن هذا المنطلق، فإن القوميين الاجتماعيين المؤمنين بهذا المفهوم والذين سجّلوا، كما تفضّل الأمين زهير، البطولات والتضحيات على مدى عقود من السنين، هم أنفسهم هذا “الجيل الجديد” بشيبهم وشبابهم وبأشبالهم وأسودهم وبنسائهم ورجالهم.
“الجيل الجديد”، إذن، ليس مرحلة عُمرية، لأن جميع الذين يغزو الشيب مفرقهم اليوم كانوا في يوم من الأيام ذلك “الجيل الجديد” المتوقد الواعد، لا خثور فيه ولا تردّد، لا بل كان من بينهم قادة عسكريون مميزون و”منظرون” (نعم، منظرون بين مزدوجين) في الفكر والعقيدة يوم كان يطغي السواد شعر رؤوسهم وذقونهم. السؤال هو “هل كانوا فعلاً “الجيل الجديد” الواعد والفاعل الذي أتت عقيدة سعاده لتكريسه كمفهوم مجتمعي تغييري، أم كانوا جيلاً جديداً بفعل الأوضاع السياسية والتحكّم بالحزب من قِبَلِ من لا علاقة له بالفكر النهضوي؟”
الجيل الجديد هو حركة تغييرية واعية لدورها ولغايتها ولمصلحة مجتمعها، بغض النظر عن السن والخبرة الحياتية؛ حركة تخطّت مفاعيل وعوامل التجزئة والمنفعة الشخصية والنزعة الفردية وغيرها من العلل التي استشرت ولا تزال مستشرية.
في اللغة الإنجليزية مصطلح Passing the torch أي “تمرير الشعلة”، ولئن تم تداول هذا المصطلح في احتفاليات اختتام الألعاب الأولمبية حيث يحوِّل البلد المضيف الشعلة الأولمبية المتقدة لممثل البلاد التي ستستضيف الألعاب التالية، كدليل على استمرار توهّج الروحية الجامعة للأمم، بات هذا المصطلح ليعني أيضاً تحويل الحمل من كاهل تَعِبٍ إلى آخر يدبُّ فيه النشاط. وأغلب الظن أن هذا هو ما قصده الأمين فياض في مقاله. ومما لا شك أن هذا هو أيضاً ما نبغيه جميعاً، فمستلزمات المرحلة تتطلب منا جميعاً تحفيز فئة الطلاب والشباب لتسلّم المهام، لتسلّم الشعلة التي ستنير دروبهم ليكملوا المسيرة حتى في أحلك الظروف. بيد أننا معنيّون، في الدرجة الأولى، لا بل مُجبرون معنوياً وأدبياً، أن نسلّمهم شعلة مستعرة، وليس هيكل شعلة خامدة نخرها الصدأ وجفً زيتها وضرب الفساد مقبضها، ثم نقول لهم “إنطلقوا في نشر الفكر وقيادة السفينة إلى شاطئ الأمان!”
حريّ بالواعين والمدركين أن يُصلحوا المشعل ويضيئوه قبل تمريره إلى حامليه الجدد، لا بل علينا أن نحضّر نحن هذه المجموعة الجديدة من المتحفزين ونحسن تنشئتها وتدريبها وتوجيهها، لا أن نورثها حقولاً قاحلة ومنازل مهدمة وأجواءً مفعمة بالتلوث ونطلب إليهم أن يأكلوا ويُطعموا من ثمار الحقول وأن يقطنوا نعيم الدور وأن يتنشّقوا عليل الهواء.
قد نكون نحن أجيال الخيبة والفشل، ولكن في الوقت نفسه يوجد بيننا من آمن بالعقل وبقدراته ومن تعمّد بلهيب الفكر النهضوي والعقيدة، وقد نكون أخطأنا غير مرّة ولكن كثيرين من رفقائنا سجلوا الملاحم والبطولات والمواقف الصلبة وأنتجوا أدباً وفنّاً وشعراً وفكراً.
هل نحن بحاجة لدم جديد لا موبقات فيه؟ طبعا نحن كذلك، لكن علينا أن نؤمِّن لهذا الدم الشرايين النابضة وليس جسداً مقطّع الأوصال لا حياة فيه.
النهضة كفيلة بأن تساعدنا في إضاءة الشعلة، فلنبق فعلها مستمراً. واجبنا يحتم علينا أن نسلّم شعلة مُضاءة، فتعالوا لنصلح المشعال ولنحرث الحقل ولنرمم المنزل ولننقي الأجواء، عندها وعندها فقط يمكننا أن نقول لأصحاب الأكتاف القوية “أكملوا المسيرة!”
1 Comment
مقال فادي خوري رائع شكلًا ومضمونًا. كما هو دور الفينيق التثقيفي.