سمعةُ حمار الكورة ضربت الآفاق! فهذا الكرُّ العنيد، عدا عن تناحته ويباس رأسه، كان يقع في الساعة، فيحرنُ في منتصف الدرب ولا يترك أحداً يمر إلا ويلبطه ذات اليمين وذات الشمال.. كأنه يحاول الاحتجاج على ظلم البشر بسبب الأعباء الثقيلة التي يحملها يومياً من السفح إلى أعلى التلة كأنه الجحش الوحيد في المنطقة..!.
في أحد الأيام، أُصيب الحمار بكريزا الجنون التي كانت تنتابه عادةً، بينما كان يمر وفد رسميّ يضم أعيان البلدة، فحنتر وشنهق ثم قطع الطريق على زعيم المجلس الذي اشتُهر بحكمته وأخلاقه العالية وتفانيه في القضايا العامة، وبالفعل وقف موكب الزعيم طويلاً ينتظر أن تهدأ أسارير الحمار وتسكن نفسه فيمرّ بلا مشاكل.. وعلى ذمّة الراوي وهو أحد المرافقين المقربين، فقد نزل الزعيم شخصياً من السيارة بعد أن تنّح هذا الحمار ولم تجدِ معه كل محاولات الحلحلة من قبل صاحبه والناس العابرين، فقام باللحمسة على رأسه ثم وشوشه بضع كلمات في أذنيه، فانقلبت أحواله جذرياً وهدأ ثم تنحّى جانباً تاركاً المجال للموكب كي يمرّ!.
التكهّنات انتشرت بسرعة بين الطامحين المتنافسين على خلافة الزعيم، فقال بعضهم إن تلك الكلمات التي تمتمها في أذنيّ الحمار، لابد أن تكون كلمة السر لنيل الزعامة، فحاولوا التقرب من هذا الجحش وتدليله وأخذه إلى أكثر المعالف شهرةً في البلدة عساه يبوح بالسر.. كما عمدت أجهزة الأمن إلى اعتقاله بشكل سريّ محاولة أن تنتزع تلك الكلمات تحت التعذيب!.
لقد عاش هذا الحمار عيشةَ الكلابِ بعد هذه الحادثة، فتلك الكلمات التي حولته إلى أرنبٍ أليف، جعلته أكثرَ المطلوبين شهرةً في المنطقة، إلى درجة أنه تحسّر على أيام الأحمال الثقيلة التي كان يشيلها دون أن “يلتكش” به أحد!..
أجهزة الأمن حاولت أن تجعله ينطق كي تسجل تلك العبارات، وتوسل إليه بعض المسؤولين حتى يقوم بالتأشير ليكتشفوها عبر إيماءات الحوافر وهزّ الرأس مع الذيل.. لقد استقدموا الخبراء في لغة الحيوانات، ثم رسموا الحروف الأبجدية وترجّوه أن يشنهق بشكل مختلف عند كل حرف كي يحصلوا على اللغز دون جدوى.. كان الجميع يرجونَ الحمار أن يشنهق كي يمسكوا طرف الخيط، وكان الجحش المسكين يحدّق بهم غير مصدقٍ ما يفعلون، فيقول في نفسه: لقد جُنّ مسؤولو هذه البلدة بالتأكيد!.
بعد فترة قصيرة من الزمن، استُشهد الزعيم وهو على رأس جيش صغير أسّسه من أجل تحرير كروم البلدة التي احتلها الأعداء.. المعركةُ لم تكن متكافئةً بين الطرفين، وكان الزعيمُ يعرف أنه مقتولٌ لا محالة، لكن قدريةً عجيبةً دفعته لأن يعمّد رسالته بالدم!.. في هذه الأثناء، وبينما رحى المعركة تدور بشراسة تتخللها الاتصالات والمؤامرات الدولية والإقليمية للخلاص من هذا الرجل الذي خربط مشاريعهم، كان المسؤولون يلاحقون الجحش في الحقول من أجل الحصول على ما اعتقدوه “كلمة سر” الزعامة.. وبالفعل، اجتمع الأعيانُ بعد تلاشي غبار المعركة، واختاروا خلفاً للزعيم بعد أن سرت إشاعات تقول إن الحمار قد “بقَّ البحصة” وباح بكلمة السر من كثرة الإلحاح والتعذيب وضرب الكرابيج..
منذ ذلك الوقت، أي ما يتجاوز سبعين عاماً بقليل، لبط حمار الكورة قيادات “الزعرورة” وجعلهم في سدة المسؤولية يتبادلون كلمة السر متناوبين على الزعامة فيما بينهم إلى يومنا هذا.. بينما الأعداء استكملوا احتلال الكروم المجاورة.. ووصلوا إلى عقر البيوت.. عرفتوا كيف؟.