أصبحت متابعة أخبار ملهاة تشكيل الحكومة اللبنانية عملاً فضولياً أكثر من كونها اهتماماً بمصير الناس الذين من المفترض أن تعمل الحكومة، أية حكومة، على تأمين مصالحهم ومعالجة قضاياهم. فالمواطن اللبناني يهيم في وديان والأحزاب التي تتناهش كعكة السلطة تصول وتجول في وديان أخرى لا علاقة لها بما يجري في محيطنا القومي، بل وفي الجوار الإقليمي الأوسع.
في ظل شعارات برّاقة يُراد منها أن تُبقي الشعب أسير مماحكات داخلية مدروسة، يطرح قادة الأحزاب “برامج” هم أدرى من غيرهم بأنها لا تمت إلى الواقع الحكومي بصلة. وإذا عرّينا كلامهم من عوامل التكاذب الذي ينافقون بتسميته “تعايشاً وطنياً”، سنجد أنفسنا أمام “محاصصة طائفية” لا تهدف في أساسها إلى خدمة أبناء تلك الطوائف بحد ذاتها بقدر ما هي ستار يخفي ويضمن المشاركة في الفساد المستشري على كل الأصعدة
نحن نعلم، من حيث المبدأ، أن القوى الفاعلة في الكيان اللبناني هي نتاج طائفي خالص بغض النظر عن أدبياتها السياسية وشعاراتها “الوطنية”. وعندما تبلغ الأمور حداً حساساً يمس مصالح الطائفة، لا تجد هذه القوى مناصاً من الارتداد إلى قواعدها المذهبية في مواجهة القواعد المذهبية الأخرى. هكذا كانت كل الحكومات اللبنانية التي تشكلت منذ أن وضع “اتفاق الطائف” أساس الحل السياسي للكيان اللبناني بعد سنوات الحرب الأهلية المدمرة. بل أن الأحزاب غير الطائفية مثل حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي اللذين شاركا في حكومات عدة إنما دخلا جنة السلطة تحت مظلة الوجود الشامي أولاً، ثم تحت عباءة الطائفة الشيعية أو من حصتها المرسومة ثانياً… حتى ولو كان أولئك الوزراء من مذاهب مختلفة.
هذا هو الواقع المرير منذ البدء بتنفيذ “اتفاق الطائف” الذي نصّ في أحد بنوده على ضرورة إلغاء الطائفية السياسية، فإذا بنا اليوم أمام بنية اجتماعية مشرذمة أكثر تناقضاً من أي وقت مضى. وبدلاً من إبعاد الطائفية عن السياسة، فقد وصلنا إلى مرحلة “تطييف” كل المظاهر الاجتماعية. هذا يعني أن القوى الطائفية في لبنان حققت نجاحاً عزّ نظيره على مدى العقود الثلاثة الماضية، في مقابل فشل مريع سقطت فيه الأحزاب العلمانية التي كانت بمثابة شاهد زور على الفساد والإفساد… وفي أحيان كثيرة شريكة فاعلة في الفساد والإفساد.
والسؤال الذي يجد الواحد منا نفسه عاجزاً عن العثور على جواب منطقي له هو التالي: لماذا يتهافت قادة الأحزاب العلمانية على طلب “التوزير” في حكومات هم يعرفون تمام المعرفة أنها مجرد محاصصة طائفية، ومشاركة في الفساد، وعجز عن تحقيق أي إصلاح سياسي أو اجتماعي… خصوصاً وأن رمزية عددهم لا تقدم ولا تؤخر؟ ويتفرع عن السؤال السابق تساؤل آخر مشروع: ماذ أنجز وزراء الأحزاب غير الطائفية في الحكومات التي شاركوا فيها على صعيد إلغاء الطائفية السياسية على الأقل، بحيث يرى المواطن مبرراً لوجودهم الشكلي في حكومات أوجدتها المحاصصة الطائفية؟
إن مشاركة قيادي قومي اجتماعي أو قيادي بعثي أو أي قيادي “علماني” آخر في التشكيلة الحكومية المرتقبة (هذا إذا نجح الحريري الإبن في الإقلاع بها) لن تغير من واقع المحاصصة الطائفية والتواطؤ في الفساد. فالمشاركة وعدمها سواء بالنسبة إلى المواطن العادي. قد يؤمن التوزير مصلحة آنية شخصية أو عامة، لكنه على المستوى الاستراتيجي مسيء لمصداقية المبادئ التي تحملها الأحزاب العلمانية، وتريد أن تبني مجتمع المستقبل وفق قواعدها المناقبية الراقية.
لا يخلو الأمر من وجود وزير يظل فوق شبهات الطائفية والفساد. لكن التجارب تؤكد أن مثل هذا الشخص لا يستطيع على المدى البعيد أن يقاوم التيار الجارف، فيكون أمام خيار من اثنين: إما التوكل على الله والجلوس إلى مائدة المكاسب الشخصية، أو الاعتراف الصامت بالفشل والانسحاب الهادئ حتى لا يُغضب أرباب النعمة الطائفية.
وحدها القطعان الطائفية تعمى عن الرؤية الواضحة، فتبقى ظهورها مطية لمن يجيد أكثر من غيره إثارة غرائز التعصب البدائية.
لندن في 8 أيلول 2018