الرفيق فايز كرم (أبو سرجون)
(ملاحظة: نظراً إلى شحّ نظري وعدم تمكّني من رؤية الكلمات أثناء الكتابة، طلبت من حفيدي تسجيلها على الواتساب وإرسالها إلى ولدي سرجون لتفريغها على الورق كما وردت).
تعود معرفتي بالأمين الراحل نذير العظمة إلى خمسينات القرن الماضي. فعلى أثر مقتل عدنان المالكي وقيام عبد الحميد السرّاج بالتنكيل بالقوميّين، تمكّن عدد من الأدباء والشعراء والضبّاط القوميّين من الانتقال إلى لبنان. إلى الكورة وصل نذير العظمة وكمال خير بك، فبدأ الثاني التدريس في بشمزين، في حين تعاقد نذير العظمة مع مدرسة الأب نادر (معهد نادر) في بلدة ددة. وقد لعب الاثنان دوراً كبيراً في بثّ الوعي القومي في صفوف الطلاب، وإنماء الروحيّة السوريّة القوميّة بين الطلاب القوميّين، الذين كنت أنا واحداً منهم.
كنت في الخامسة عشرة من عمري، في الصفّ الثاني بعد السرتفيكا في المدرسة المذكورة حين وصلنا نذير العظمة أستاذاً جديداً للغة العربيّة. ولم يلبث أنّ ألّف نشيد المعهد:
نادرٌ يا معهدي يا منارة الغدِ
ولا أعرف ما إذا ظلّ هذا النشيد متّبعاً في المدرسة التي أغلقت أبوابها السنة الماضية بسبب الأزمة الاقتصاديّة في لبنان.
أسهم نذير العظمة بنهضة حزبيّة قويّة في الصفوف الطلابيّة في الكورة التي كانت نشطة آنذاك، لدرجة أنّ طلابه الذين درّسهم العقيدة ظلّوا على اتصال به حتّى بعد تركه للمدرسة. فوق ذلك كان نذير العظمة أستاذاً محبوباً، يتابع الطلاب ويراقب وظائفهم المدرسيّة في هذه المدرسة التي كانت وقتها مدرسة علميّة وليست مدرسة مهنيّة كما كانت قد أصبحت عند إقفالها.
كانت علاقتي به علاقة طالب وأستاذ، إلى أن جاءتني ابنة عمّي، وكانت طالبته، وتتقّدمني بصفّين. قالت لي إنّ عليها أن تكتب موضوعاً في الإنشاء كلّفها به أستاذ اللغة العربيّة، وسألتني إن كان بإمكاني أن أكتبه لها. كتبت لها موضوع الإنشاء، فأخذته وسلّمته لأستاذ اللغة العربيّة، نذير العظمة، فصحّح وظيفة جميع الطلاب ووزّعها عليهم، ولكن عند وصوله لابنة عمّي توجّه إلى الطلاب بالسؤال: هل تعرفون من كتب أفضل موضوع في صفّكم؟ إنّه الطالب فايز كرم. فقال الطلاب: هو ليس معنا بل في صفّين أدنى من صفّنا. فقال لهم: أراهنكم أنّه هو من كتب موضوع هذه الطالبة. وقد أنكرت ابنة عمّي بشدّة أيّة علاقة لي بموضوعها.
عندما رنّ جرس الفرصة انتظرتني أمام باب الصفّ لتقول لي أن أنكر كتابة الموضوع لها، غير أنّها لم تنتبه أنّ الأستاذ نذير يراقبها ويسمعها. اقترب منها قائلاً: ألم أقل لك إنّه هو الذي كتب الموضوع؟
ومنذ ذلك اليوم نشأت بيني وبين نذير العظمة صداقة، فبدأ يدعوني لمرافقته إلى صنوبر دير سيّدة البلمند حيث كان يعقد الاجتماعات هناك. كان محور هذه الاجتماعات يدور في الغالب حول مواضيع أدبيّة تتعلّق بمجلّة “شعر” الناشئة حديثاً في بيروت، وكان نذير أحد مؤسّسيها. كان زواره يأتونه حتى من الكيان الشامي. من هؤلاء ما زلت أذكر شخصاً يدعى وليد المدفعي، وقد دعاه الأمين نذير إلى المدرسة أيضاً ورحّب به ببيت من الشعر ارتجله:
قم حيّ الوليدَ ومقلتيهِ إنّي قد تعشّقتُ الوليدا
ومن بين من حضر الاجتماعات الأدبيّة، الذين أذكرهم، الشاعرة العراقيّة نازك الملائكة وميشال طحّان ابن أخ البطريرك اسكندر طحّان، وكان رفيقاً، كما الأستاذ المرحوم عفيف خوري من كفرحزير، بالإضافة إلى عدد كبير آخر غادروا هذه الدنيا، وذاكرتي تخونني في تذكّر أسمائهم.
أمّا الاجتماعات الحزبيّة في صنوبر الدير فلم تكن للطلاب، بل لرفقاء ومواطنين وحتى مناوئين، فيدور النقاش الفكريّ ويحتدم. لا أريد أن أذكر الأحياء الذين كانوا يحضرون معنا النقاشات السياسيّة كي لا أسبّب لهم أيّة مشاكل وخصوصاً أنّ منهم من يعيش في دول الاغتراب. كنت أشارك معه في هذه الاجتماعات ونتناول طعام الغداء هناك. من بين من رأيتهم في هذه الاجتماعات أستاذ من الكيان الشامي اسمه عيسى بندقي، وكان رفيقاً يدرّس في البلمند وكذلك في مدرسة الأب نادر. وقد أدار الرفيق بندقي مع الأمين نذير العظمة عملاً حزبياً مهماً في الكورة، بالإضافة إلى الشهيد كمال خير بك في بشمزين. أذكر مرّة في إحدى الحلقات الإذاعيّة في بشمزين التي أدارها الأمين نذير أنّه اضطر إلى كتب حزبيّة لم تكن متوفّرة معه ولا في المكان، فركضت وقتها في الليل من بشمزين إلى فيع، حيث لم يكن هناك سيّارات كما هو اليوم، مع كاهن بلدة فيع الحالي الأب سمعان حيدر وجلبنا الكتب وعدنا ركضاً إليه بسرعة فاجأته.
في مرّة أخرى أقام حلقة إذاعيّة على بيادر فيع، دعا إليها الشاعر جورج سمعان واستمع إلى قصائده ليدعوه بعدها إلى الانتماء للحزب أو إلى قراءة الزعيم أنطون سعاده. بعدها بدأ بمناقشة قصّة دليلة الكنعانيّة وقصّتها مع شمشون. فانبرى له شابّ من القرية وقال له إنّ دليلة كانت عاهرة، فقام الأمين نذير بطرده من الحلقة ورفض الاستماع إليه، وتابع بتعريف دليلة الكنعانيّة على أنّها بطلة افتدت نفسها في سبيل شعبها. وتابع بتفنيد كتاب المشوّق الذي وردت فيه هذه الحكاية مركّزاً على أهميّة المناهج والطريقة الصحيحة في طرح المواضيع لتعليم الأولاد.
كنت طالبه، ولكنّ نذير العظمة كان رجلاً خلوقاً بامتياز. عاملني معاملة مميّزة، إذ كان يتعامل معي كصديق ويعرّفني إلى أصدقائه. كنّا نجتمع حوله ويروي لنا حكايات عن بطش عبد الحميد السرّاج والتنكيل بالقوميّين وإعدام بعضهم. كان يحبّبنا بالشعر ويدير الصفّ بطريقة أن يستدعي الطالب إلى اللوح ويسأله عن اسمه ومن أين أتى، ثمّ يعطيه بيتاً من الشعر ألّفه هو أو أخذه من قصائد لشعراء قوميّين، ويطلب من الطالب إعراب البيت وتقطيعه عروضيّا وتسمية بحره الشعريّ. مرّة طلبت أن أصعد اللوح، وكان يحمل مسبحة في يده، فقلت له: في يد الأستاذ مسبحه / ليس غير الله سبّحا. فقال لي: البيت مكسور، قل: ليسَ غير الله يوماً سبّحا.
عندما أصدر ديوانه الأوّل “جرّحوا حتّى القمر” سألناه عن العنوان، فأخبرنا أنّه يردّ في هذا الديوان على قصيدة نزار قبّاني “خبز وحشيش وقمر” بقصيدة حمل الديوان عنوانها، ويقول فيها: “خمّشوا وجه بلادي، جرّحوا حتى القمر”. سبّب صدور هذا الديوان خلافاً بين الأب نادر، مدير المدرسة، والأمين نذير العظمة لما تضمّنه من أفكار وروحيّة سوريّة قوميّة اجتماعيّة وإشارته إلى معاناة القوميّين في الشام.
على إثر هذا الخلاف بدأ يردّد باستمرار أبياتاً شعريّة ويركّز على البيتين الأخيرين:
الظلام المكشّر النابَ خصمي والنجومُ المشعشعاتُ صحابي
أعرقي تشرب الضوءَ من الشمس وقلبي مغلغلٌ بالترابِ
وبلادي حسب عمري أغنيات تضجّ بالأطيابِ
فاذكروني بها غداً وتأنّوا بالأزاهر كلَّ مرّ سحابِ
سألناه يومها ماذا تقصد في هذه الأبيات، فأجابنا: اذكروني لأنّ إقامتي بينكم ليست طويلة واستفيدوا مني قدر الإمكان. وبالفعل أكمل التدريس حتى نهاية السنة وانتقل بعدها إلى مدرسة برمانا العالية. في هذا الوقت تعرّف إلى جمال صعب من بلدة بتعبورة – الكورة وتزوّجا. وقد زرته مراراً في برمانا.
عندما اندلعت الأحداث في لبنان في عام 1958 كتب قصيدة من حوالي تسعين بيتاً بعنوان “صنّين”، يؤرّخ فيها الأحداث على الساحة اللبنانيّة، يقول فيها:
تسعون يوماً ما انفكّت بنادقهم تدقّ في صدري النارَ واللهبا
وقد ألقى هذه القصيدة في مهرجان الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ في بلدة كفرعقا – الكورة، تطرّق فيها إلى أحداث عام 1958 التي كلّفت الحزب شهداء أيضاً. من بعدها لم أره إلا قبل العمليّة الانقلابية عام 1962 وسفره إلى أميركا. عرفت لاحقاً أنّه كان معارضاً لفكرة الانقلاب، وأرى أنّ سفره قد أنقذه من الاعتقال والتعذيب وحتى القتل كونه من الكيان الشامي.
في أواخر عام 1979 وقبل عيد الميلاد بأيّام عاد من أميركا، وكان الوضع والحكم في الشام قد تغيّرا. التقيت به في شارع الحمراء في بيروت، حيث كنت أعمل صحفيّاً وكان هو ينزل في أوتيل نابليون. تداولنا في كثير من التفاصيل ومنها مقدّمته لكتاب “الخالدون – سيرة شهداء الحركة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة”. وأخبرني بنيّته في التوجّه إلى الشام، فسألته: كيف ستذهب الآن إلى هناك؟ فأجابني: شخص أمين سيوصلني. فألححت عليه إن كان متأكّداً من أمانته ليتبيّن لي أنّ هذا الشخص هو الرفيق عمر وهبه الذي قتل في سوريا بداية الأحداث عام 2011 على أيدي عصابات جبهة النصرة بأكثر من مائة طعنة سكيّن. وحتّى الآن ما زال مقتل عمر غامضاً بشكل مريب. قبل توجّهه إلى الشام أعطاني الأمين نذير كتاباً وزجاجة ويسكي، وقال لي: من فضلك الكتاب لجان داية والويسكي لجبران جريج. أعطيت الكتاب لرفيق من آل الحداد، ولا أعرف ما إذا كان قد أوصله إلى الرفيق جان، لأنّ هذا الرفيق استشهد كونه كان يتوجّه إلى “بيروت الشرقيّة”، في حين أنّني لم أكن أذهب إليها بعد تهجيري منها وعائلتي إلى مسقط رأسي في بلدة فيع – الكورة على أيدي الكتائب، بل كنت أتوجّه إلى مكان عملي في الحمراء وأعود إلى القرية عن طريق سوريا، وأبيت أيّام العمل في الحمراء عند صديق صحفيّ في جريدة “صدى لبنان” عرفّني إليه الأستاذ محمّد البعلبكي وطلب منه أن يهتمّ بي.
أمّا زجاجة الويسكي فسُرّ بها الأمين جبران سروراً كبيراً.
ولم أرَ نذير العظمة من جديد إلا يوم تشييع الأمين عبدالله قبرصي في بلدة ددة – الكورة عام 2007. وآخر مرّة حاولت الاتصال به هاتفيّاً مع طالب سابق له في المدرسة، عبدالله عبّود من بلدة بطرّام – الكورة، قبل بضعة أيّام من وفاته ولم نوفّق بسماع صوته.
هذه ذكرياتي مع نذير العظمة الذي عرفته مطلع شبابي وبداية نشاطي الحزبيّ. كبرتُ مع قصائده في “جرّحوا حتى القمر” و”اللحم والسنابل” و”نواقيس تموز”. وفي الختام:
وبلادي حسب عمري أغنيات تضجّ بالأطيابِ
فاذكروني بها غداً وتأنّوا بالأزاهر كلَّ مرّ سحابِ
فلم ينسه طلابه طيلة ثمانية وستين عاماً.