في البدء كانت الحسبة، وهي ممارسة رقابية تديّنيّة تولّدت عنها الرقابة الرسمية كممارسة قمعية للأداء الفكري. وتجسّدت أخيراً بقوة “الأكثرية” من المقموعين عن المعرفة والتعبير والحصول على المعلومات، كشكل إحتجاجي تتصاغر أمامه كل معاناة لأصحاب الحق بالأبداع. ليتحول هذا الحق الأصلي (بالإبداع) في إجازته، إلى محكمة القديح أو المديح كمرجعية “أكثروية”، تخضع لإحكامها الإبتزازية كل الممارسات الاجتماعية، في إستغناء تام عن القانون كجزء تربوي في المنظومة الحقوقية المجتمعية. ولا يختلف تأثير هذا الإستغناء على منتجات، الفن أو السياسة أو الفكر والعلم وحتى الطبخ والملابس.
وفي البدء أيضاً، كان هناك النقد، بمعناه المعرفي، (وليس بمعناه التقديري الإنطباعي الذي يسمى في الغالب إنتقاداً)، الذي يؤسس لرؤىً معيارية، للنص الإبداعي مهما كان نوعه، (موسيقا، أدب، شعر، سينما، مسرح..إلخ). وبسبب النقد المعرفي هذا ومن بوابته، يتمّ تكريس النصوص الإبداعية وفرزها وتصنيفها وإكتشاف مكانتها وجمالياتها وجدواها.
في الحدث “الجلل” الذي جرى إزاء منع الحفلة المقررة في مهرجان جبيل/بيبلوس الدولي لفرقة (مشروع ليلى) الموسيقية يوم التاسع من آب الماضي، يطفو إفتقاد وإفتقار، لفعلين تأسيسيين في أية عملية تعبيرية، هما القانون والنقد.
فحق التعبير مصون في الدساتير الحديثة المولّدة لقوانين صيانة هذا الحق وحتى ترشيده، والتي قد تتضمن ممنوعات من غير المسموح التعبير فيها، كما تتضمن واجبات حماية النصوص التي لم تخرج عن القانون. وهذا ما يشترط على المعترضين إلزاماً أن يكون اعتراضهم تحت سقف القانون وبوسائله، أو إستخدام وسائل مثل المقاطعة والإنتقاد والإحجام عن الدعم، أو إنتاج نص مختلف، وربما التظاهر “للتعبير” أيضاً، وللإعلان عن وجود نص معاكس. ولكننا لم نر أيا من هذا في حادثة المنع، بل رأينا تهديدات بالعنف الأهلي إذا لم يتم المنع. وهنا يمكن وصف الحادث بالـ”الجلل”، كتقرير لما حلّ بالقانون. فهذا الجلل انتقل من إحترام القانون والخضوع له، والتصالح عليه كقيمة مساواتية، إلى إخضاعه الى تأويلات جانبية تحت التهديد بعصيانه. في هذا العصيان نسفٌ لتأسيسيات حقوق التعبير القانونية التي تفرض التسالم لحل النزاعات الناتجة عن إختلاف الرؤى. هذا لم يحصل إذ تم إلغاء الحفلة في التاسع من آب، كأذكى حل لتفادي العنف الأهلي، وهو حل إسعافي ومؤقت، يبقى معقولاً ومقبولاً أهلياً، ولكن ماذا عن المجتمع؟!
ليست فرقة مشروع ليلى وحيدة في تعرضها للعنت ولاغتصاب حقها في التعبير. فقد طاول هذا النوع من العنت الكثير من منتجي التعبير بكافة أشكاله وأصنافه، قبل ومع وبعد وجود “الدولة” في البلاد الناطقة بالعربية. ويكفينا وعلى سبيل المثال حكاية المسرحي الرائد أبوخليل القباني، وغريمه سعيد الغَبَرة الذي وصل الى السلطان العثماني في بداية القرن الماضي، ليشكي له أحوال الرعية المتأذية من أفعال القباني المسرحية. لوحق على إثرها القباني، حيث لم يتحول هذا النوع من الكيد إلى ثقافة فحسب، بل صار في كثير من الأحيان إلى صيغ قانونية، تمنح حق التعبير حريته، في مادة من مواد القانون، وتصادرها في مواد كثيرة أخرى. هذه الصيغ تدليس دستوري لايتناسب مع قيام دولة حقيقية ما يجعل منها عرضة للإنهيار جراء تراكم الأفعال غير القانونية المنافية لوجودها كالفساد مثلا. وما الحادث “الجلل” الذي تعرضت له فرقة مشروع ليلى، إلا فقرة واحدة تراكم كما التي قبلها والتي بعدها، بيئة مؤدية إلى تقويض الدولة حتى وإن استمرت هذه “الدولة” كسلطات ومكانات. وكذلك تتحول حادثة مشروع ليلى وقبلها حادثة أبوخليل القباني وما بينهما، إلى سابقات قانونية يمكن الإحالة
لم تكن حادثة مشروع ليلى بريئة من الفلكلور المعتمد في مواجهة حالات تعبير إشكالية يتم فيها إعتماد إتهام الإساءة الى المشاعر أو المعتقدات. وهذه وحدها من أعقد المسائل الشائكة التي تتصدر المشهد الثقافي في بلادنا. فبينما يحق للمؤمن بالبداهة أن يدين المؤمن الآخر من أي معتقد آخر، خصوصًا اللادينيين والملحدين والعلمانيين، لا يحق لهؤلاء الرد أو الإحتجاج أو حتى التذمر، وكأن عليهم التخلّي عن بعض حقوق المواطنة كي يستوي ميزان العدالة. وهذا ما حصل في العديد من الحوادث التي انفضّت لصالح التهديد الإبتزازي (كالزواج المدني الإختياري)، ما يشكّل أسبقيات يمكن درجها في إجراءات الممارسات الحقوقية. على مثل هذه الإجراءات استندت دعاوة منع مشروع ليلى والرسوم الدنمركية أو حادثة شارلي إيبدو، ومثلها الكثير من حوادث التكفير في العالم العربي.
على الضفة الأخرى، ومع الإفتقار الى النقد المعرفي، لا يستطيع أحد تقريباً تقدير القيمة المعرفية لموسيقا وغناء فرقة مشروع ليلى وبالتالي تحديد موقف معرفي منها، علما أن حريتها بالتعبير بدهية لا تحتاج الى نقاش. وهذا موضوع شائك علينا النظر فيه، فالموسيقا الرديئة التي تجتاح أذن المستمع، والتي تؤسس لذوق موسيقي وغنائي منحطّ تشكل خطراً داهماً. في المقابل، هناك منتجات موسيقية وغنائية راقية، تصارعها في ميدان المنتجات الثقافية، ولكن الغلبة لما تزل للموسيقا الرديئة في عموم الأوساط السكانية.
ما تحتاجه منتجات فرقة مشروع ليلى هو وضوح موقعها في هذه المعادلة/الصراع. فالفرقة مغمورة نسبياً من حيث النقد والتقييم الفنيين، وكذلك من حيث نوعية المستمعين أو هواة النوع. وهنا يبدو المرء محتاراً في موقفه من موسيقا لا يعرف عنها إلا القليل بسبب منعها قسريا. هل يدافع عنها من موقع حرية التعبير أم يتبنى موقفاً معرفياً منها بواسطة الإستماع فقط؟ هل يدافع عن موسيقا رديئة ترادفاً مع دعمه لحرية التعبير، علّ الصراع الثقافي يوضح الأمر، أم أن موسيقا فرقة مشروع ليلى جيدة وتستحق الدعم الثقافي أيضاً؟
لقد فضحت حوادث فرقة مشروع ليلى الثلاث، في مصر والأردن ولبنان، البنية الثقافية/الحقوقية، المفضوحة سلفاً للبلدان المسماة عربية جميعها، وعن مدى قدرتها على إفتعال المعارك الجزافية، والإنتصارات الوهمية، على حساب السكان الحالمين بحياة ذات كرامة. كما أنها فضحت الفارق الواهي بين الديني/الطائفي، والتمدني/الحقوقي. فلا فارق هنا بين لابسي المايوه، ولابسي الحجاب والجلباب؛ فالكل في ذات البؤرة الثقافية الإستلابية. إنهم يدعون إلى الحرية المقننة، ولكن ليس بقانون “الدولة”، بل بقانون الإبتزاز التهديدي، لأنهم وببساطة لا يقبلون بالمساواة كعامل تأسيسي للمجتمع المولد للدولة.
لذلك يبدو الفساد/الإفساد، صيغة برلمانية للدولة العربية، فبدونه لا يمكن لسلطة إدارة الأزمات (التي تسمى بالمجاز إستبداداً)، أن تتسلط، كونها سلطة وليست دولة، ولذلك تحل قوى الطائفية محل قوى الدولة المساواتية، وتحلّ محلّها أيضاً قوى تتوازع التسلط بعدالة.
المشكلة على المستوى الشعبي، تبدو خطيرة للغاية. إنها تكرس تفكيراً ثقافياً يتلخص في البحث عن سبب مباشر لتفجير أزمة/فضيحة. بعد ذلك يتم البحث عن ذرائع ومبررات، تشرعن المواجهة، ما يخلق سياقات تعايشية شوهاء، تتأسس على قواعد الغالب والمغلوب. هذه السياقات هي، في معظمها، صيغ مؤقتة، كما الحروب الأهلية، حيث لا شعب وإنما فئات تنظر إلى إنتصارها كإنجاز هائل لحق على حساب باطل، وتتوقف بسبب الإنهاك بلا غالب ولا مغلوب، ما يحفظ للجميع فيها “كرامات” من النوع القبضاياتي القائم على عدم كسر “كلمته”، في حين أن الوسط الاجتماعي نفسه مهشّم ويحتاج الى نقلة نوعية محددة، هي الإنتقال من الفوضى إلى النظام.
قد يرى البعض، أن ما كتبناه عن أزمة فرقة مشروع ليلى الموسيقية، مغالياً، أو تنظيرياً لحدّ ما، وأن الموضوع لا يستحق، ولكن هذه الأزمة تبدو نموذجية، في خضم الأزمات الصغيرة والكبيرة التي تجتاح التجمعات السكانية “العربية”، فالخطاب التدّيني “العربي”، احتقن وتدملّ، نتيجة إنسداد أفقه المعرفي، نظراً لإصراره على حمل كرة النار، التي ما أن يرميها من يديه حتى تحرق الأخضر واليابس، فلا هو بقادر على حملها، ولا هو بقادر عن الإنفصال عنها، وها هو يضيف إليها هشيماً، في كل مناسبة، دون وعي لخطورة مستصغر الشرر، فماذا يمكننا أن نسمي الذي حصل في أزمة منع فرقة مشروع ليلى…….يا ترى؟