أوقع الغزو الأميركي ـ البريطاني للعراق سنة 2003 كارثة بالأثار العراقية لا يمكن حتى الآن إعطاء ولو تقدير أولي لحجم الخسائر الناجمة عنها.
وأخطر ما كانت تسفر عنه عمليات التنقيب غير الشرعية يكمن في ثلاثة جوانب أساسية: الأول، أن التنقيب لا يخضع للأساليب العلمية المتعارف عليها مما يفقد الباحثين أية قدرة على القيام بدراسات موثقة تأخذ في الاعتبار وجود الآثار في الطبقات الأرضية المتناسبة مع أزمنة تاريخية معينة. الثاني، عدم معرفة أماكن العثور على القطع الآثارية المكتشفة فيضيع أصلها فلا تعود ذات قيمة في البحث التاريخي. الثالث، وهو الأكثر ضرراً، أن القطع المسروقة أو التي يتم العثور عليها بالتنقيب غير الشرعي غالباً ما تجد طريقها إلى الأسواق الدولية فتخسرها بلادنا إلى الأبد.
ومع ذلك، وفي خضم هذه الصورة السوداوية لواقع آثارنا المنكوبة، يحدث بين حين وآخر ما يعوّض بعض الخسائر وفق مبدأ “رب ضارة نافعة”! ومن ذلك، على سبيل المثال، الكشف غير المتوقع الذي أعلن عنه في أواخر العام 2015 ويتعلق باكتشاف كسرات من لوح طيني يتضمن قسماً كان مفقوداً من الفصل الخامس من “ملحمة كلكامش” التي تعتبر واحدة من أقدم الملاحم في التاريخ البشري، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق.
تبدأ القصة في متحف السليمانية في شمال العراق سنة 2011، عندما عرض أحد الأشخاص على مسؤولين في المتحف بيع بعض الألواح الطينية ذات الكتابة المسمارية، ويقدر عددها بحوالي 90 لوحاً، مقابل 800 دولار أميركي. وسرعان ما تبيّنت للعالم العراقي الدكتور فاروق الراوي أهمية هذه المجموعة فأوعز بشرائها على الفور… من دون الدخول في مساومات أو تساؤلات كي لا يذهب البائع إلى السوق السوداء!
وبعد تنظيف الألواح مما علق بها من أتربة جراء التنقيب العشوائي، أظهر البحث التمهيدي أنها تعود إلى العصر البابلي الحديث (2000 ـ 2500 قبل الميلاد)، والأرجح إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد. وقد توقف الدكتور الراوي طويلاً عند لوح بعينه، محطم إلى ثلاثة أجزاء. ولم يتم تحديد ما إذا كان التحطيم قديماً أم ناجماً عن التنقيب الحديث. لكن النص المؤلف من عشرين سطراً باللغة البابلية كان شبه متكامل. وهنا جاءت المفاجأة السارة بالنسبة إلى الباحثين.
لقد تعاون الدكتور الراوي مع العالم أندرو جورج من جامعة لندن، كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، على فك رموز الكتابة المسمارية، ليتبن لهما أن الأسطر العشرين تعود إلى قسم مفقود في الفصل الخامس من “ملحمة كلكامش”، وهو الذي يتناول رحلة كلكامش وصديقه أنكيدو إلى غابة الأرز في سياق السعي للحصول على زهرة الخلود. ومن المعروف أن البطلين الأسطوريين يواجهان “الوحش” خمبابا حامي غابة الأرز ويتغلبان عليه ويقتلانه قبل العودة إلى مدينتهما
وتوضح لنا الأسطر العشرون الجديدة بعض الغوامض التي عصيت على الباحثين في الفصول المعروفة سابقاً، كما أنها تعطينا صورة مغايرة لمغامرة كلكامش وأنكيدو في غابة الأرز. فمن ناحية أولى، يظهر أن خمبابا ليس “وحشاً حارساً” حسب الترجمات السابقة وإنما هو “ملك” على الغابة التي تعج بالمخلوقات من قرود وطيور وأزهار وأشجار ونباتات. وأكثر ما لفت نظر الباحثين في النص أنه غني بالوصف التفصيلي للغابة والقاطنين فيها وطبيعتها، وهذا أمر نادر إجمالاً في الشعر البابلي القديم الذي لا يعتمد كثيراً على الوصف المجرد. يضاف إلى ذلك أن المقطع المكتشف يلقي أضواء جديدة على الغابة و”ملكها الحارس” خمبابا. وأخيراً، ستساعد السطور المترجمة على توضيح مفردات كانت ما تزال غامضة في الفصول الأخرى من الملحمة.
الصدفة وحدها هي التي أوصلت هذا اللوح المكسور إلى المتحف، ومنه إلى عناية باحثين موثوقين أكفاء، فأكملوا بعملهم نواقص مهمة في واحدة من الملاحم الإنسانية الخالدة. ترى كم من الألواح والآثار ينقلها مهربون محترفون إلى الخارج حيث تباع إلى المجموعات الخاصة، فتختفي عن أنظار العلماء، وتضيع معها احتمالات ظهور إضافات جديدة لمعارفنا التاريخية!
0 Comment
قرأت بشغف هذا المقال ،وذهبت مخيلتي تتصور تلك الفترة، وأحسست بالفخر لما قدمت بابل وبلادنا للعالم،عسى أن نأخذ العبرة، ونعود لمعرفه من نحن ، ونؤكد باننا قادرون ان نشارك في بناء مجتمع وأنسان جديد. شكرا