جدلية الوحدة… والانشقاق

احمد اصفهاني

Share

لا يخشى القوميون الاجتماعيون شيئاً قدر خشيتهم من الانشقاق/الانقسام في صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهذه الكلمة، وما تحمله من مضامين التفرقة والتناقض والصراعات، تستفز فيهم انفعالات عاطفية صاخبة، فيفقدون القدرة على التعامل العقلاني مع أزماتهم الحزبية المتراكمة. وفي تلك الحالة القلقة الجياشة، نرى البعض منا يغرق في رمال الإنكار والتجاهل فتنتشر بيننا تمنيات وهمية لا إسناد لها في الواقع المُعاش.

نبدأ بالقول إن التنوع، بل والخلاف، هو من سمات الرسالات الفكرية الكبرى. وينطبق الأمر على العقائد الدنيوية كما على العقائد الدينية (الماورائية). فكل رسالة منها تنطوي على نظرة شاملة إلى الحياة والكون والفن، حسب تعبير أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه. وانطلاقاً من شمولية النظرة، يكون من الطبيعي أن تتنوع الأفكار والرؤى، فتصبح عامل إثراء طالما أنها تتحرك في رحاب الرسالة أو العقيدة. فقط عندما تتقدم المصالح الذاتية على المصالح العامة، وعندما يتم توظيف الفكرة المطلقة لأغراض سياسية آنية… في مثل تلك الحالات تحديداً يتحول التنوع إلى تناقض قد يفضي إلى الانشقاق/الانقسام!

وقد أدرك سعاده باكراً أهمية التنوع الفكري في إطار العقيدة القومية الاجتماعية. وتكشف لنا رسائله إلى فخري معلوف وغسان تويني في منتصف أربعينات القرن الماضي، ومن ثم حواراته ونقاشاته مع نعمة ثابت وأسد الأشقر ويوسف الخال وكريم عزقول وغيرهم بعد العودة إلى الوطن سنة 1947، أن جوهر الأزمة يكمن في محاولة فرض توجهات ذاتية على الحزب. إضافة إلى حصول استغلال لمواقع المسؤوليات الحزبية بهدف الترويج لأفكار خارجة عن العقيدة. لذلك حرص سعاده على إنشاء الندوة الثقافية المركزية بوصفها إطاراً جامعاً يؤمن ساحة للحوار المنفتح بين الآراء المختلفة.

إن التمعن في تاريخنا الحزبي بعد استشهاد سعاده يُظهر لنا أن عوامل الانشقاق/ الانقسام كانت موجودة دائماً. كامنة في بعض الأحيان، ومعلنة في أحيان أخرى. (يمكننا تلمس وجود النزعات ذاتها في حياة سعاده، لكن هذا موضوع آخر لوقت آخر). وعند بروز بوادر خلافات داخل الحزب، مهما كانت طبيعتها، كان التعامل معها يتم بالنوايا الحسنة التي تتجاهل جذور الخلاف وتداعياته بين القوميين. فتلجأ القيادات المركزية إلى التعتيم، متلطية خلف ستار سميك من النكران وخداع النفس… ولو إلى حين! بعد استشهاد سعاده، اجتمع عدد من الأمناء لاختيار رئيس للحزب. يومها “تقوننت” آلية قيام السلطة الجديدة على وقع اتهامات متبادلة بين جورج عبد المسيح ومعروف صعب. عبد المسيح أنتخب رئيساً، وصعب بات خارج الحزب. أما الاتهامات التي طالت كلاً منهما، فقد رقدت في دهاليز الثرثرة والنميمة… لتنفجر بعنف سنة 1957 عندما وقع الانشقاق الأول في الحزب. وطيلة الفترة بين 1949 و1957، لم تخضع تلك الاتهامات لتحقيق قضائي مستقل، على الأقل لإزاحة غيوم الشك عن “أبطالها”.

يمكننا أن نلحظ ثلاثة مظاهر أساسية رافقت أزماتنا الحزبية، سواء أوصلتنا إلى انشقاق/انقسام أو تراجعت تدريجياً مع مرور الوقت:

الأول ـ خلاف عقائدي بين توجهات فكرية مختلفة يتبناها قياديون حزبيون، كما حدث بعد خروج الرفقاء من الأسر اللبناني سنة 1968 حيث تبنى بعضهم مقولات عروبية واشتراكية وماركسية. وقد أدى ذلك الخلاف إلى انشقاق الحزب بين 1974 و1975.

الثاني ـ خلاف حول الممارسات التنظيمية، خصوصاً عندما يتهم طرفٌ معيّنٌ الطرفَ  الموجود في سدة القيادة  بسوء استخدام آليات السلطة. من الأمثلة المتداولة ( ونحن لا نتبناها وإنما نذكرها كونها طُرحت وأعلنت حينذاك): عبد المسيح بين 1954 و1957، إنعام رعد بين 1980 و1984، أسعد حردان بين 1998 و2021.

الثالث ـ خلاف في المواقف السياسية والعلاقات الخارجية. ونقصد بذلك توجيه الحزب إلى ناحية قد تكون متناقضة مع العقيدة القومية الاجتماعية، أو قد تسبب ضرراً مادياً ومعنوياً للحزب وللقوميين الاجتماعيين. وأمامنا نماذج عديدة: العلاقة مع أديب الشيشكلي مطلع الخمسينات، التحالف مع شمعون أواخر الخمسينات، التذبذب بين الشام ومنظمة التحرير الفلسطينية في السبعينات والثمانينات، والانخراط بلعبة الفساد الحكومية في الكيان اللبناني حتى اليوم!

هذه هي المظاهر الثلاثة الأساسية للخلافات التي كانت تعصف بالحزب تاريخياً، وأسفرت عن عدد من الأزمات وثلاثة انشقاقات وخطوتين للتوحيد (والحبل على الجرار). لكن خلف هذه المظاهر المباشرة وفي صميمها تكمن عناصر أخرى، نستطيع أن نختصرها بعبارة واحدة هي الصراع على السلطة. فعندما تحتدم المنافسة على مستويات القيادة، يلجأ الطرفان المتنافسان إلى تلوين طموحاتهما وأطماعهما بمسحة عقائدية أو سياسية. ويترافق ذلك مع حملة انتقاد وتشهير تتسلل إلى الصف الحزبي، مُحدِثةً أجواء من التوتر والاستقطاب. وبقدر ما تطول المواجهة بين السلطة ومعارضيها، بقدر ما يصبح الحزب جاهزاً للانشقاق عندما يحين الظرف المناسب، أو عندما تتدخل قوى خارجية لها مصلحة حيوية في إلغاء دور الحزب على الساحة القومية.

إذا راجعنا تاريخنا الحزبي بتمعن ومن دون مسلمات مسبقة، سنكتشف أن شرخ الانشقاق ـ إجمالاً ـ يبدأ من رأس الهرم السلطوي وينزل عامودياً إلى “المريدين” قبل أن ينتشر أفقياً في الصف الحزبي. وعندما تصل الأمور إلى هذا الحد، فإن قرار الانشقاق يصبح رهن إرادة القيادات المتناحرة… بينما ينجرف القوميون الاجتماعيون، بغالبيتهم العظمى، إلى هذا الطرف أو ذاك. وعندها لا يعود بالإمكان اللجوء إلى التقية والتضامن السلطوي من أجل كبح إرهاصات الانشقاق/ الانقسام. فالمرض الخبيث تفشى بحيث أن مداواة العوارض الظاهرة قد تنجح في تأجيل المصير المحتوم… فقط إلى حين!

لكن تاريخنا الحزبي يُبيّن لنا أيضاً مسألتين غريبتين تتعلقان بكيفية تعاطي أكثرية القوميين الاجتماعيين مع ما نسميه “جدلية الخلاف والانشقاق”.

الأولى: عند اندلاع الخلافات الداخلية، وفشل الأطر النظامية في معالجتها، فإن كل المساعي “الحميدة” ستسقط أمام الصراع على السلطة. بالإمكان كبت الصراعات، والتهرب من المواجهات، وإخفاء الواقع عن الصف الحزبي. لكن الأسباب المُوجبة ستبقى عنصر تهديد لوحدة القوميين الاجتماعيين ولدورهم النهضوي في المجتمع. والغريب في هذه المسألة أن العاملين للانشقاق يحرصون على تأكيد إيمانهم بـ”وحدة الحزب”، ويتهمون الآخرين بـ”شق الحزب”.

الثانية ـ عند وقوع الانشقاق/الانقسام، حتى لو حدثت ارتكابات وأعمال عنف، فإن كلاً من الطرفين يشدّد على تمسكه بالعقيدة وسعيه إلى “الوحدة”. وغالباً ما يحاول الطرفان أن يخلقا هامشاً للتمايز بينهما، سواء في السياسة أو في العقيدة. كما أنهما ينسجان تحالفات مختلفة هدفها إبراز التمايز… خصوصاً بالنسبة إلى القاعدة الحزبية.

وفي هاتين المسألتين، يوجد دائماً من يبذل المساعي والوساطات “المخلصة” من أجل إنهاء حالة الانشقاق. والملفت أن الطرفين يرحبان بهذه الجهود، تماماً مثلما تم سنة 1978 و1998، ومثلما يجري اليوم أيضاً. وكأن مسؤولية الانشقاق يتحملها “طابور خامس” مجهول، وكأن كل الذين كانوا السبب أبرياء من تبعات ما حلّ بالحزب. حتى يُخيّل للمراقب الحيادي أن دعاة الانشقاق يخجلون بإعلان حقيقة مراميهم. يروي الأمين الراحل الدكتور عبدالله سعادة في مذكراته “أوراق قومية” جوانب من تحركات “التنظيم السري” الذي أنشيء داخل الحزب مطلع السبعينات. يقول إنه في أحد الاجتماعات طرح أحدهم فكرة الانشقاق، لكن الحاضرين رفضوها. فكان تعليق ذلك الرفيق: “القادرون لا يريدون الانقسام، والمريدون لا يقدرون”. (صفحة 230)

الذين يبشّرون بالوحدة ويتلطون خلف شعاراتها الجذّابة إنما يُضمرون طموحات الصراع على السلطة… وهذه أقصر الطرق إلى الانشقاق! لأن من مستلزمات التشبث بالسلطة الاعتماد على مجموعات موالية، أي اللجوء إلى الممارسات الفئوية التي تحتضن بذور الخلافات وتؤدي حكماً إلى التشتت. ومن المستحيل أن تنجح المؤتمرات، مهما كانت النوايا سليمة وصادقة، في تحقيق وحدة الروح ووحدة الاتجاه… طالما أن الغاية هي السلطة أولاً وأخيراً.

0
0