قراءة في رواية “وارث الشواهد” لوليد الشرفا[1]
هي رواية يمكن أن تشكل كل صفحة من صفحاتها موضوع دراسة معمقة، هي رواية كاتب ذكي إلى قارئ ذكي، يستطيع الإحاطة بأبعاد الموضوع الهائل التي نسجت تفاصيله بدقة وفنية عالية، رواية “وارث الشواهد” التي وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكرز هذا العام، تذكرنا بجدوى الكتابة والقراءة ومراجعة أفكارنا التي تراكم فوقها الغبار، أفكارنا التي تتعرض لتشويه الروايات المتعددة
شخصية الرواية الرئيسية، الوحيد، تمثل كل فلسطيني “دفع ثمن روايات الأرباب”، أي الروايات الدينية التي أباحت سرقة الأرض وحياة ساكنيها، ونسجت على خلفية قصص الشواذ والاتجار بالنساء والعنف الدموي أساطير شكلت قاعدة لاستعمارها ولممارسة القتل بصفته واجباً وطنياً، نسجت دولة عرقية دينية تحمل اسم نبيها: “وحدها تلقيحات روايات الرب في عقول اليهود تحولت إلى عرق، وبعد اختراع البارود تحولت إلى جغرافيا، سبحان الرب!”
ولعل المشهد الأكثر دلالة على رفض الرواية الدينية التي أدت إلى تكوين الكيان الإسرائيلي هو ذلك الذي يعلن فيه الطبيب بشارة أن لصديقه الوحيد الحق في العودة إلى بيته في عين حوض، فيصرخ القاضي أن تلك البلدة هي حق لليهود تمت سرقته منذ ثلاثة آلاف عام، فيجيب الطبيب أن عليهم إذاً استدعاء الله إلى المحكمة ليستمعوا إلى شهادته… تظهر الرواية بشكل دقيق كيف ترجمت المرويات الدينية سرقة، سرقة الأسماء بعد الأمكنة، سرقة الثقافة والتاريخ. حتى النبيذ الذي يسمونه إسارئيلياً مسروق، فهو من إنتاج هذه الأرض وهذه الشمس، والأيادي التي عملت في صنعه لا تنتسب إلى تلك التسمية. ولعل قتل والد الوحيد الذي كان يعمل مدرساً لمادة التاريخ ودفن كتابي التاريخ اللذين كان يحملهما معه إشارة إلى الحملة المركزة التي سوف تشن لسرقة تاريخ أهل الأرض، كما تجسد دراسة التاريخ التي اختارها الوحيد اختصاصاً خيار المواجهة. يقول بشارة لزميل له يحذره من المشاكل التي تسبب بها الجد وحفيده منذ مجيئهما إلى فلسطين المحتلة جملة بسيطة تلخص كل هذه السرقة: “أنتم من جاء إلينا يتسحاق” ويذكره أن بيت الجد موجود هنا منذ قبل ولادة دولتهم
يجسد بشارة في الرواية شخصية الطبيب الفلسطيني المسيحي المسالم الذي رضي بالرواية اليهودية وعاش في ظل حكم دولتها، هو الفلسطيني الذي مارست عليه قوى الاحتلال ما تمارسه كل دولة محتلة وهو سياسة نزع الثقافة أوdéculturation تمهيداً لأن يصبح من دون ثقافة أو acculturation، فيصار في المرحلة الثالثة إلى تلقينه ثقافة المحتل ليتماهى مع روايته على أنها “رواية الرب”
. ولكنه سيكتشف بعد أن يسمع حكاية وحيد وجدّه أن ما كان يظنه سكينة هو بالحقيقة حالة مرضية وأن من الأفضل أن يموت الفلسطيني سليماً على أن يعيش مريضاً، وأن البارجة الحربية الإسرائيلية التي يراها من نافذة المستشفى هي التي ترمز لإسرائيل وليس الفن واللوحات والثقافة الكاذبة. ويختم الرواية بقول يشعّ كنور وسط عتمة الحاضر ويشير إلى درب المستقبل: “سأعود فلسطينياً نقياً”.
“وارث الشواهد” هي رواية عن الإرث، إرث الرواية الحقيقية التي تشق طريقها إلى الضوء وسط التزوير والسرقة، من رواية الجد لحفيده، عن أرض عين حوض التي غادرها إبان النكبة وبقي ينتمي إليها وإلى شجرها وطيورها والبيت الذي بناه والده فيها، إلى الرواية التي ينقلها إلى صديقه بشارة إذ يصرخ إليه من سجنه طالباً أن يكتب حكايته، كما ينقلها إلى زوجته الأميركية ربيكا وابنته ليلى، التي تودعها في لوحاتها وتحمل عن أبيها حلم العودة، إلى إبنة بشاره التي تسمح لها الحكاية بالتعرف على هويتها المطموسة. تناقل الحكاية هو سر الإنقاذ، وقد عبر الجد عن هذه الحقيقة بمثل شعبي يكتسب في سياق النص أبعاداً هائلة: “اللي خلف ما مات”. قد يكون حرف الاستقبال (السين) الذي يرتبط بالأحرف المضارعة في النص دليلاً على دائرية المسار وعلى الأمل في مستقبل يتلقف فيه الأبناء الحكاية عن آبائهم. لذلك نقول إن “وارث الشواهد” هي رواية الأمل بعد أن سيطر الجفاف والتصحر على قسم كبير من نتاج الأدب الفلسطيني الذي جنح صوب القصص الهامشية، متناسياً أن لا وجود حقيقي لأي قصة تغفل عن ذكر القضية الوجودية. فكيف لمن يُسرق تاريخه وهويته وحتى حياته أن يكتفي بعيش مبني على إنكار تلك السرقة العظمى؟ كيف له أن يدور حول الهاوية التي تتهدده مدعياً أن لا وجود لها؟ كيف للكاتب الفلسطيني أن يظن أن زمن كتابة رواية تفند أسباب ونتائج الاحتلال قد ولى وأن مثل هذه المواضيع لم تعد تثير اهتمام القارئ، فيكتب عن علاقات الحب والجنس والبحث عن عمل أو عن تسلية ولا يتطرق إلى البندقية المصوبة إلى رأس كل من يتجرأ على رفض الظلم والكذب؟ كيف يكون حداثياً من يرضى بمحو تاريخه وحاضره ومستقبله؟
وحيد الذي يجمل “وحياً جديداً” ينجح في قلب المعادلات التي صيغت لستعبد فلسطين:
“يحق لهؤلا وللرواة والمتخيلين اختيار آلهتهم وشياطينهم وأنيائهم وتجارهم، لكن لا يحق لهم اختيار ضحاياهم وقرابينهم، لذلك فالعالم لم يتحضر، وأن الله “الأرضي” حمل أعبا وآثاماً وروايات لم يعد يطيقها، وأن أهلي وأنا شواهد على فشل العالم، وفشل رسالة الأنبياء بانتهائها إلى نقيض ما دعت إليه. فبدأت بحرية اختيار الرب وانتهت إلى حرية اختيار الضحية.”