زيد قطريب
هولٌ كبيرٌ، يقطنُ داخلَ سُورِ القصيدةِ الشاميّةِ. ينبشُ الجثثَ من فنائها الخلفيّ، ثمَّ يهيمُ على وجهه في فناء الدار: أيّ فقْدٍ أورثتموني أيها الأهل؟
هو أكبرُ من الفجيعةِ، وأشدُّ فتكًا من الامّحاء! هولٌ، كان من شأنه أن يفرّخَ أساليبَ الكتابةِ، ويحرّضَ على تمرّدِ المعاجمِ وتقنيات النصوص.
“طلعنا بثيابنا”. يقولُ أحمد! وعندما تشتدّ الفداحةُ، يتمنى لو تحوّلت “نونُ” الاطمئنانِ ألفًا، في سؤال “من نحن”، لتصبح الجملةُ: “ما نحنُ”؟ فأيُّ هولٍ فتَكَ بالقصيدةِ، حتى رُحتَ تكتب بالنّصَال يا شاعر الفرات؟
ذهبت قصائد أحمد، منذ الحرب السورية، باتجاه الخذلان، منذ ذلك الوقت وهو يحمل الهزيمة على رأسه ويدورُ، مثل أمٍّ غرق طفلها في النهر أمام ناظريها، وهي لا تُحسنُ العوم!
خذلانٌ سياسيّ، وخذلانٌ مجتمعي، ينمو مثل سافانا الدمِ بين الكلمات.. في هذا كله، يمكن الحديث عن قصيدة تؤرخ ما جرى. فالقصة التي عاشها الشاعر، موجودة هنا، منذ اللحظة التي غادر فيها مدينته الرقة، إلى اللحظة التي أيقن فيها أنه بات غريبًا وأن جبينه هو الوطن!
الفجيعةُ السوريةُ، أنتجت اتجاهين في الكتابة. الأولُ ذهبَ باتجاه الهشاشةِ وقَشِّ الزبد. أما الثاني فاختار نَحْتَ الصخرِ لاستخراج الماء! في هذا التوصيفِ، نُحصي الكثيرَ من الشعراءِ، والنادرَ جدًا من الشعر.
كتب أحمد حافظ منذ البداية، قصيدةَ الفكر واللغة وشغفَ التهابِ المشاعر. ذلك الثالوث الكافرُ بالمألوفِ، يندرُ كثيرًا في القصيدة السورية والعربية خلال العقود الماضية. فجُلَّ ما نحصلُ عليه، إذا ما تتبعنا خطَّ الشعر البياني، هو الانضواءُ والتنميطُ واستنساخُ الضحالةِ، من يمٍّ كادَتْ أن تجفَّ فيه، بسالةُ العباراتْ!
البنية الفكرية عند أحمد، شكلت على الدوام حصانةً للنص، وقد دُعّم ذلك، بالص
لا ينصاع أحمدُ إلى العقل. ولا يستكين للعاطفة. بل يصنعُ جناحينِ، ثم يبدأ بتطيير الفراشاتِ فوق الأرض اليبابِ، علّها تُنبت الأزهار للشرانقِ الملفوفة بأكفان الأهلِ وهم ينقضّون على بعضهم كالأعداء. بشكلٍ يشبه أسطورة “الإينوماإليش” البابلية، “عندما لم يكن هناك سماءٌ ولا أرض”، كان على الإله مردوخ أن يخترع الوجود من العدم!
لا يمكن عبور هذه النصوص، إلا عندما يَصْفُق هذان الجناحان في الهواءِ، إيذانًا بالرفرفة وبَدْءِ التمردِ على القاع. إنها “قصيدة الفهم والفكر والشعور”، التي صحّحَ سعاده وفقها، قصيدةَ سعيد عقل، فدفَعَهُ إلى كتابة “قدموس” عوضًا عن “بنت يفتاح”!
انكسارٌ كبيرٌ، يعصف بقصائد أحمد، ربما نسميه صدمةً أكبر من هزيمة 1967، بسبب انغلاق الأفقِ، وتحوُّل خشبات الخلاص إلى مشانقَ، في مقدمتها هزيمة “الحركة” التي كان يُعوَّلُ عليها تصنيع أطواق النجاة، لكنها بدتْ متورّطة في تكريس العجز. كل ذلك يتجلى على شكل عتابٍ أو رثاءٍ، يظهر في القصائد التي تظلُّ متصلة مع ما سمّيناه بالهول، وهو يبدأ في نصوص أحمد، بجريمة اغتيال سعادة عام 1949، ويستمر حتى استشهاد روحية الأمة وتكسير أذرعها، وتحويل فينيقها إلى عصفورِ كنارٍ يغردُ في سيرك السياسيينَ البُلهاء!
أحاولُ ألا أتورّط في نصوص التناصِ مع أحمد. لكن هيبةَ اللغةِ تشدّني، وهي تسفحُ قيحَ البلادِ، من قوسِ صحراءِ النفوذِ، إلى غوطة الشام.
قصيدة أحمد ليست غامضة، لكنها ذكية، ويلزَمُ قارئَها خبرةٌ لغويةٌ حتى يقبض على المعنى بيسر. لا أغالي إن قلتُ إن هذه النصوص تنتمي إلى ذات المدرسة التي صاغ ملامحها الراحلُ فايز خضور، إن كان من ناحية المعجم اللغوي، أو من جهة الحفر في أعماق المعاني. كأنّ هذه القصائدُ مكتوبة بالسكاكين:
(خاصمتُ صوتَ الناي، منذ ضرّجتْ دماءُ أخي، قصبَ الضفَّة)
قلنا إن هناك جبلاً كاملاً من الشعر كُتبَ في هذه الحرب، لكن عوامل الحتِّ والتعرية، لن تبقي إلا بعضًا من التلالِ المنهوبةِ بخيولِ الدهشة وهي تطوي المسافاتِ باتجاه مجازات المعنى. فهي لا تضيّع البوصلة، بل تعمّرُ طويلاً وقد لا تفنى، بعامل الصدق الذي قال عنه الماغوط إنه حامل القصيدة الأول.
لقد تورط الكثيرون بالتكنيك، ومال آخرونَ إلى الهشاشة بعامل انعدام الموهبة، لكن أحمد صنع قصائدَ من ذهب، لأنه مجبول فطريًا على الصدق المدعّم بثقافة وانتماءٍ وثيق، وهو ما شكل إكسيرَ حياةٍ تشربه النصوص قبل أن تبدأ مهمتها في الدفاع عن الخيال:
(هذه الكمنجةُ، منذ غابَ عازفُها صارت أثاثًا
دَسَسْنا في جيوب ِ غلافها دفاتر،
علقنا عليها قميصًا عابقًا
ونثرنا حولها بعضَ ما نجا من الصور)
تعاني قصيدة التفعيلة، الكثيرَ من المآزق، لكنها هنا تفتحُ الأفق وتفتضُّ عنق الزجاجة باتجاه الرحابة. فبقدر ما عانى هذا اللونُ من مشكلات النَّظْم والبلادةِ في التعبير، إلا أن استناد نصوص أحمد إلى اللغة الفريدة، والصدق في اجتراح الصور، والاشتغال على العمق دائمًا، يظهرُ كملَكَاتٍ لديه، فالقصيدة لديه ليست خارج إطار القرارِ القصديّ فقط، بل إنها مقطوفةٌ من الينابيع:
(يدكِ الصغيرة ما تبقى من بلادي.
حجتي كي لا أغادرَ،
نيَّتي ألا أخونَ،
وصبرُ أضلاعي على رُكبِ الظلامْ
لا. لن أشبّهها بنهرٍ، بعدما صارت ينابيعُ الطفولة مقبرهْ)
“يدكِ الصغيرةُ ما تبقّى من بلادي”. رعب هذه الصورة وفرادتها، يجعلها قصيدة متكاملة رغم أنها مكونة من أربع كلمات فقط. وهي عمليًا ألغت كل ما قيل بعدها أو جعلته شرحًا إضافيًا وإسهابًا في التفاصيل. هذا ما نسمّيه بالجدِّة في التصوير، وهي صفة تُعتبر من أساسيات القصيدة، إذ إن النصوصَ من دون صورٍ نافرة غير مألوفة، تفقد أهم حواملها، وتصبح أقرب إلى النّظْم أو السرد.
تعيد قصائد أحمد حافظ، مجدَ قصيدة التفعيلةِ، وتنقذها من مطبّاتها عند أحفاد الشعراء الرواد. الكلمات مشحوذةٌ بشكل حادٍّ، والمعاني مسنونة لاختراق المخيلة بنصالها، حيث لا حشوٌ ولا زوائدُ في نصٍّ يحملُ من البلاغةِ ما خفَّ وزنه وثَقُل معناه. كأن تلك النصوصُ تحملُ رُقيةً من جدّاتِ الفراتِ، كي لا يتلاشى النهرُ في البحر:
(.. تُدمي صخرةٌ رأسَ غريق، فيظنها بشارةَ اليابسة. يطأ الناجونَ جزيرةً، وأرواحهم أشباحٌ متلاطمة في اللجّة.
ـ لأنَّ الأملَ لقاحٌ مضادٌ للدغاتِ الحقيقة. كثيرُهُ غيبوبةُ النشوان،
وقليلهُ غصةُ الصابر).
يقول النقدُ، إن شاعرًا باليَ الفكرِ، سيكتبُ قصائدَ بائدةَ الأساليب. فالأفكارُ ليست متروكةً على ناصياتِ الشوارع كما يتوهّم البعضُ. والأساليبُ ليست مجرد اكسسواراتٍ ومعداتِ تجميل للنص. الفكرُ والأسلوبُ، جناحانِ لن تحلقَ القصيدةُ بانكسارِ أحدهما، فهما “مدرحيةُ” الشِّعرِ، وعصاهُ السحريةُ التي أمسكها أحمدُ ليهشَّ الفراشاتِ، حتى تطيرَ فوق الأرض اليباب.