تصفرّ أًّوّلُ ورقة على السياج المشجّر بيننا وبين جارنا
يبدأ عازف “التشيلّو” في حارتنا تمارينه
أوَّل “زحقة”* قوس على أوَّل وتر
غصّةٌ في حلقي،
لأنّ شمساً غربت عن جبين قاسيون.
واصفرّ لونُ الشارع من إضاءةٍ غريبة في “القيمريّة”
بائعٌ متجوّل يلمّ آخر أخبار الحرب عن عربته الصفراء،
جبينه المجعّد يتجعّد،
يجرّ فصلاً كاملاً من خريفٍ يجرّ وراءه خرفان…
مااااء .. ماااااء…
عالٍ جدّاً صوت الثغاء.
– “زحقة” ثانية والوتر الثاني يزداد توتّراً-
ابنه الذي كان يحلم أن يصبح نجماً كعازف ال “تشيلّو” الذي يحبّ،
صار يطلّ مع نجمة المساء،
يسكب وجهه ضوءً أصفرَ عن عربة السماء
كلّ مساء، كلّ خريفٍ مجرورٍ بربيعنا الثوريّ..
“زحقة” ثالثة والعازف يرتاح…
أرتاح أنا
أُخرج يدي من جيبي
وأطرق بالتتالي أربعة مفاتيح من البيانو التي تصادف أصابعي…
يندهني أبي..
عفواً نسيت،
مات أبي
يندهني حلم أبي حين كان يريدني أن أصبح عازفة كمان،
رغم أنّ روحه وجسده كانا يهتزّان طرباً
حين يسمع مقدّماتٍ موسيقيّةً منفردة العزف على القانون
كان أبي مغرماً بالقانون..
درس أبي القانون في كلّية دمشق للحقوق، قبل أن تصبح حقوقنا حلماً،
وقبل أن يصبح قانون الحرب صُفرةً ساريةً تحت جلدنا،
صفرةً تتفشّى بالموسيقى بتأنٍّ.. ، وعلى مهل.
يَصْفرُّ شاربُ جارنا الذي يعزف يوميّاً وقت الغروب
بيده المقطوعة السبّابة والوسطى على سيجاره الحالم،
سيجاره الحالم جدّاً
حين كان ورقَ تبغٍ أصفرَ
يتدحرج على سيقان النجمات الخلاسيّات الفاتنات.
يصفرّ وجهي..
يزداد اصفراراً ما بين المسكّنات والمنوّمات ..
ليت النوم يزورني كلّما توهّمت أنَّك تحبّ سواي..
أضعت سلّة العمر في غابات انتظارك التي لا يزورها أيّ خريف..
خريفٌ واحد مازال يندهني
يوم لامس إصبعي لأوّل مرّة أولى أصابع البيانو في القبو الكبير،
في بيت أهلي في البلد الذي أصبح وجهه الأكثر صفرةً بين لائحة بلاد العالم الثالث…،
ولمست روحي وقتها تحوّلاً في لمعة عينيّ أبي..
كان قطافاً متعدّد الألوان.
في قبو العالم السفليّ خريفٌ بلونٍ واحد يحبو والعالم يفتح يديه..
“باتي باتي باتي…”
هللويا..
يا فتحةً في قلبي تزداد اتساعاً كسماء!
هللويا ..
افتح لي ذراعيك،
خريفٌ أنت
كلّما مررتَ بي
تلوّنُ كنهَ الأشياء…
_______
* زحقة: الكلمة العامية ل”الصرير” ويقصد بها هنا الصوت الذي يصدر عند ملامسة القوس للوتر