كلما هدأت قضية بيوت الراحلين من المبدعين العرب، عادت إلى الواجهة إثر هدم الورثة للعقار كي تقوم مكانه عمارة عالية، أو يباع بالمزاد العلني لاقتسام التركة بين الأبناء والأحفاد. هكذا كان علينا أن نتقبّل خسارة بيت الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، الذي لم يستجب له القدر فيصبح منزله متحفاً يضم مقتنياته الشخصية ومخطوطاته، بعد أن فشلت وزارة الثقافة بشرائه أو إنقاذه عبر اتفاق مع العائلة. كذلك الأمر بالنسبة لبيت أم كلثوم الذي بُنيت مكانه عمارة ضخمة، وبيت عبد الحليم حافظ المهمل، وبيت نزار قباني في الشام القديمة، ومنزل محمد الماغوط الذي أغلق بعد وفاته نظراً لوجود ابنتيه خارج دمشق.
تستطيع وزارات الثقافة العربية أن تقيم المهرجانات الاستعراضية الضخمة، وتستقبل الوفود من جميع المشارب، وتصرف الملايين على نشاطات لا تترك أثرها في المشهد الإبداعي، لكنها لا تفعل شيئاً وهي ترى بيوت المبدعين تتحول إلى مشاريع عقارية وشققٍ تُباع بمرابح عالية، بسبب الضغط السكاني وتوسع الكتل الاسمنتية في المدن. حتى إن تلك الوزارات لا تحاول القيام بأضعف الإيمان مثل شراء مكتبات المبدعين الراحلين ونقلها إلى المكتبة الوطنية، أو تخصيص قاعات للوحات والمخطوطات التي يمتلكها كل مبدع، بحيث يُؤسَّسُ متحفٌ كبير يضم المقتنيات الشخصية للأسماء الهامة من الرواد الذين كان لتجربتهم أثراً كبيراً في صياغة الذائقة والاحتفاء بالجماليات في الرسم والشعر والموسيقا وغيرها من الفنون.
لا يبدو المبدعون العرب أقلّ شأناً من مبدعي الغرب، لكننا للأسف متخلفين على صعيد المؤسسات والمشاريع الاستراتيجية التي تنظر بعين زرقاء اليمامة ولا ترى أبعد من الأنف. بيت سلفادور دالي في إسبانيا، أصبح متحفاً كبيراً يؤمه الزوار من كل بلدان العالم. وكذلك الأمر منزل أنيشتاين في بيرن بسويسرا، وفريدا كاهلو في المكسيك، ووليام فوكنر في إكسفورد، وتولستوي في روسيا، وشارلز ديكنز في لندن، وجورج أورويل في اسكتلندا، وفرجينا وولف في إنكلترا، وجوته في ألمانيا.. لكن بيوت المبدعين العرب بقيت تُعامل كتركات وعقارات يتم هدمها لقيام عمارات جديدة، أو لاقتسام ثمنها بين ورثة المبدع الراحل المختلفين على أملاكه، وهي مسؤولية تتحملها وزارات الثقافة العربية بالتأكيد.
ما ساهم في إثارة هذا الموضوع اليوم أيضاً، هو الحالة المزرية التي بات عليها منزل رائد المسرح العربي أبي خليل القباني “1833 – 1903″، أو بالأحرى تلك الأطلال التي تبقّت من داره المتربع على سفح قاسيون، وهو يطل بجدران ترابيةٍ تشبه الخرائب على وادي بردى والتلال المجاورة، بلا سقوف أو أبواب أو شبابيك، بعد أن كان في مرحلةٍ ما، يضجّ بالحياة وتدريب الفرق واختبار البروفات. صحيح أن أبا خليل حظي بمسرح يحمل اسمه في قلب العاصمة دمشق، لكن بيته الذي تحول إلى خرابة بعد أن نُهبت محتوياته في مراحل مختلفة، يبقى مثيراً للأسى، فقد استملكته وزارة السياحة وعرضته للاستثمار السياحي وكان من المنطقي أن يتحول إلى متحف ومركز ثقافي تشرف عليه وزارة الثقافة وليس السياحة!
يتندّر البعض بالقول، إنه وقبل المطالبة بتحويل بيوت المبدعين العرب الراحلين إلى متاحف، لنطالب بتأمين حياة كريمة للأحياء منهم. فالمبدع العربي يعاني مشقة العيش والفاقة والمرض، وغالباً ما يموت في منزلٍ مؤجرٍ ضمن العشوائيات وداخل غرفة لا تصلح أن تكون متحفاً أصلاً! إنها مسألة متشعبة ومعقدة لا تُحلّ بجهود الأفراد، بل تحتاج تخطيط المؤسسات المعنية بالهم الثقافي والحفاظ على التراث كإرثٍ للأجيال.. وحتى يحصل ذلك سنردّد مع جدّنا المتنبي:
لكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ… أقفرتِ أنتِ وهنَّ منكِ أواهلُ