بين قبعة غورو ومعطف حسني الزعيم-حسان يونس

Share

هناك رجالات تدفع التاريخ قدما نحو الأمام، وعندما تتحرك الأحداث غالبا ما يطوي النسيان أولئك الرجال، فيندفع قطار الزمن تاركا إياهم في محطات الماضي. وباعتبار أن ذكرى الجلاء الفرنسي عن الشام مرّت في 17 نيسان، سأقدّم نموذجا من هؤلاء المطويين في النسيان، أحمد مريود، الذي تتراوح ذكراه العطرة بين قبعة غورو المزعومة وبين معطف حسني الزعيم .

ولد أحمد مريود ونشأ في قرية جباتا الخشب، من قرى القنيطرة في 1886، ينتمي إلى قبيلة المهيدات التي كانت تسيطر على إمارة وزعامة منطقة البلقاء في الأردن. أسس جريدة (الجولان) الأسبوعية التي كانت تصدر من القنيطرة، وكان يرأس تحريرها ويشرف على موادها. دخل في جمعية العربية الفتاة، وكان عضوا في حزب الاستقلال المنبثق عنها 1919، كما كان عضواً في المؤتمر السوري العام 1919- 1920 الذي أعلن وحدة واستقلال سورية الطبيعية.

عندما تسرّبت أنباء تقسيم شرق المتوسط بين الحلفاء، غادر أحمد مريود جلسات المؤتمر إلى الجولان لإعداد العدة وتنظيم المقاومة، أسوة بابراهيم هنانو قائد الثورة في الشمال السوري الذي شارك في جلسات المؤتمر السوري العام أيضا، والذي غادر كذلك المؤتمر إلى مقره في حلب استعدادا لمواجهة الفرنسيين. أعلن أحمد مريود الثورة في تشرين أول 1919 ضد المحتل الفرنسي، واستطاع رد الغزو الفرنسي لسوريا عن طريق بوابة مرجعيون. وعندما دخل الفرنسيون سوريا بعد معركة ميسلون كان أحمد مريود من بين المحكوم عليهم بالإعدام. فغادر إلى شرقي الأردن ورسم استراتيجية سياسية قومية لإعادة تنظيم حزب الاستقلال، وشن حرب استنزاف على القوات الفرنسية في سوريا انطلاقاً من الأردن، مستفيدا من الوضع الخاص لهذا الإقليم، حيث كان يشغل منصب نائب معاون العشائر في الحكومة الأردنية.

وفي ظل هذا المناخ قرّر مريود اغتيال الجنرال غورو، حيث استهدفت موكبه المتوجه إلى بلدة القنيطرة مجموعة من الشباب الثائر من جباتا الخشب وشبعا ودمشق في 23 حزيران 1921، فأصيب غورو بثلاث رصاصات وقتل المترجم الفرنسي الكولونيل بارنيت واستولى المهاجمون على قبعته، التي أرسلها أحمد مريود إلى ليلى ابنة الشهيد يوسف العظمة. انطلقت عملية الاغتيال من كفر سوم في إربد في الأردن، وتسببت بازدياد ضغوط الإنجليز على أحمد مريود، ما اضطره إلى مغادرة الأردن إلى الحجاز، ثم إلى العراق. وعندما اندلعت الثورة السورية سنة 1925، عاد إلى الشام للمشاركة في الثورة، لكن الضغط العسكري الفرنسي اجبره وأنصاره على الانسحاب إلى الجولان والتحصن في جباتا الخشب. كان للفرنسيين حساب قديم مع الرجل منذ محاولة اغتيال غورو فقصفوا جباتا الخشب بالدبابات والطيران واستطاعوا قتله في 31 آيار 1926، فاستشهد مع ابنه البكر حسين الذي لم يتجاوز 16 ربيعا، واستشهد أربعين من أهله وعدد من القادة الثوار.

عرض الفرنسيون جثامين الشهداء في ساحة المرجة كنوع من القصاص والإرهاب النفسي البدائي المشهور والمتكرر كثيرا في التاريخ، لكن الدمشقيين استقبلوا واحتضنوا جثامين الشهداء بماء الورد والزهور، ورفضوا إعادة جثمان أحمد مريود إلى جباتا الخشب، وأصرّوا على دفنه في دمشق أسوة بسائر الضحايا العظيمة التي احتضنتها تربة دمشق.

بعد قرابة الثلاثة عقود من محاولة اغتيال غورو شهدت دمشق جوا مشحونا آخر، بعد ارتكاب حسني الزعيم جريمته المتمثلة بتسليم انطون سعاده إلى السلطات اللبنانية في 6 تموز 1949. وقبل أن تنتهي أربعين سعاده جرى انقلاب على حسني الزعيم بقيادة سامي الحناوي ومشاركة مجموعة من الضباط القوميين السوريين في 14 آب 1949، حيث أعدم حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي في ليلة الانقلاب، وكان من نفّذ حكم الإعدام عصام مريود (ابن أخ أحمد مريود) وفضل الله أبو منصور ومحسن الحكيم (والثلاثة من ثلاث مناطق ومذاهب مختلفة). وحسبما يروي سامي خوري في كتابه “وطن لا يغيب، ص173” أن فضل الله أبو منصور جاء إلى الأمينة الأولى جولييت المير سعادة (زوجة انطون سعادة) حاملا معطفا عسكريا كان يرتديه حسني الزعيم عند إخضاعه للعدالة، في مشهد يكاد يكون انعكاسا لمشهد محاولة القصاص من غورو، وإرسال قبعته (كما افترض المهاجمون) إلى ليلى العظمة. وفي المشهدين كانت عائلة المريود حاضرة وكان التنوع المناطقي والمذهبي حاضرا في الجماعات التي طبّقت العدالة، كما لو ان المجتمع السوري بكل تنوعه يمارس القصاص ممن انتهكوا حرمة هذه البلاد.

0
0

0 Comment

شحادي الغاوي 4 مايو، 2020 - 2:07 ص

احببت هذا المقال كثيراً، يجب أن يكون مادة في درس التاريخ في مناهجنا المدرسية.

Post Comment