تمهيد
يكثر الحديث مؤخرا عن “عدم المس” بالأقصى والقدس بحيث يكادان يحلان محل فلسطين. هذا الأمر ليس بجديد، بل هو تنويع على لحن قديم. إن الخطر في مثل هذا الطرح كبير، وقد سبق أن عالجناه في مقال كتب ونشر في كتاب “خوفا من ولكن سنة 2000، في خضم مفاوضات كامب دايفيد II، وها نحن ننفض الغبار عنه ونعيد نشره الآن للأهمية. (رئيس التحرير، حزيران 2021.)
أرض الوطن كلُّها مقدّسة. نقطة على السطر.
كلُّ إنسان وطنٍّي يعتبر الوطن معينه المادي – النفسي الذي لا حياة له بدونه. أمَّا الأماكن المقدَّسة، فتلك قصَّة أخرى. قد يشترك مجموع الشعب في اعتبار مكان ما مقدَّسًاً. ولكنَّنا، في المقابل نرى أنَّ بعض الأماكن التي تُعتبر مقدَّسة لنفرٍ، ليست كذلك للآخرين من أبناء الوطن الواحد، في حين قد يقدِّسها الملايين من الأشخاص من شتَّى الأوطان ومَّمن لم تقع لهم عين عليها. قدسيَّة أرض الوطن، من حيث هي معين الحياة للمجتمع، ومن حيث هي قرض نقترضه من أبنائنا، تفوق أهميتها، برأينا قدسيَّة أيَّ مكان آخر. بصريح العبارة، فإنَّ قدسيَّة أرض فلسطين هي أهم بكثير من قدسيَّة “الأمكنة المقدَّسة” الموجودة في مدينة القدس.
أمَّا كون الإسرائيليِّين قد نجحوا أوَّلاً بمنع البحث بمصير الأرض الفلسطينيَّة المحتلَّة عام 1948، وثانيًا بتفتيت الضفَّة الغربيَّة إلى كانتونات، وثالثًا بتحويل المفاوضات إلى بحث في مصير “أمكنة مقدَّسة” إسلاميَّة ومسيحيَّة ويهوديَّة، فمردُّه التهاون الكبير في الحقوق القوميَّة الذي نسجِّله على السيِّد عرفات وسلطته الفلسطينيَّة، ولسوف يحمِّلهم التاريخ تبعاتها إلى ولد الولد. من جهة ثانية، تعكس هذه الحقيقة الجارحة مدى انجراف عامَّة الشعب وراء الشعارات والرموز الدينيَّة مُولِينها أهميَّة تفوق بكثير أهميَّة الوطن الذي تقوم عليه هذه المقدَّسات.
بالطبع، فإن الإطار العام لكلامنا هو هذه الاتِّصالات هائلة السرعة والدائرة في مستقبل المفاوضات بين السلطة الفلسطينيَّة والعدوِّ الإسرائيلي، والتي تتمحور على مسألة الأماكن المقدسَّة بعد أن حُسمت مسألة الوطن لصالح إسرائيل. بل ويمكننا القول إنَّ مسألة الأماكن المقدَّسة تثار تحديدًا لذرِّ الرماد في العيون وإخفاء التنازل المريع عن الأرض والحقوق القوميَّة والإنسانيَّة، بحيث تُصور غدًا السيادة على “مكان مقدَّس” وكأنَّها انتصار قومي.
لا يسعنا سوى النظر بقلق “أمِّ الصبي” إلى تسليم ابنها الحبيب إلى غرباء ليقرِّروا مصيره بحجَّة الدفاع عن “الأمكنة المقدَّسة”. فها هي مصادر السلطة الفلسطينيَّة تؤكِّد لنا (الأسبوع الماضي) “أنَّ مصر لا يمكن لها أن تقبل بسيادة غير فلسطينيَّة على الأماكن المقدَّسة الإسلاميَّة والمسيحيَّة”. بل وها هي لجنة القدس المنبثقة عن مؤتمر الدول الإسلاميَّة تؤكِّد حرصها هي الأخرى على أن تكون “الأماكن المقدَّسة” الإسلاميَّة والمسيحيَّة تحت السيادة الفلسطينيَّة. في الواقع، لا مانع لدى إسرائيل، فهي قد أبدت ارتياحًا كبيرًا من بيان لجنة القدس، ولا يضيرها أن تكون السيادة على “الأماكن المقدَّسة” الإسلاميَّة والمسيحيَّة لكائن من كان شرط أن تبقى السيادة القوميَّة لها.
في النهاية، بيت القصيد الذي تريده إسرائيل هو أن يتحوَّل الوطن إلى كونفدراليَّة أماكن مقدَّسة، تربطها الجسور المعلَّقة والأنفاق.
نحن نرى أرض الوطن كلَّها مقدَّسة. نقطة على السطر.”