تحويل المنطقة إلى خزان للأيدي العاملة الرخيصة، وأراض لانتاج المواد الأولية، هدف قديم عملت دوائر السياسة والتجارة الغربية لأن اكتمال السلسلة الإنتاجية بدءاً من زراعة الأرض إلى تصنيع المنتج، ينطوي على مخاطر كبيرة اقتصادية واستراتيجية بالنسبة للأسواق العالمية وعلى مستويات أخرى.
المفارقة تقول إننا ننتج الكثير من المواد الأولية التي تدخل في صناعة أهم المنتجات، ثم نقوم باستيرادها بسعر مرتفع من أجل الاستهلاك. ولنأخذ على سبيل المثال الوردة الشامية التي تزرع في منطقة “المراح” المرتفعة 1500 متر عن سطح البحر في جبال القلمون، فتلك القرية الصغيرة تصدر الأزهار إلى الدول العربية والزيوت إلى الدول الأوروبية التي تستخدمها في صناعة العطور والمستحضرات الطبية، ثم نقوم باستيرادها مصنعة بأسعار مرتفعة. ويبلغ سعر الغرام الواحد من زيت الوردة الشامية مئتي دولار ويعتبر أغلى من الذهب، كما تبلغ المساحة المزروعة بهذه الورود قرابة ألفي دونم. بالطبع لسنا اليوم بلادًا معروفة بتصدير العطور، لكننا ننتج مكوناتها الأساسية.
هذا الأمر يذكرنا بالعالمة “تابوتي” التي تعتبر أقدم عالمية كيمياء في التاريخ سكنت بلاد ما بين النهرين قبل 3200 سنة، وقد أنتجت العطور المتنوعة حيث تم العثور على تفاصيل عملية التصنيع منقوشة على ألواح مسمارية تعود إلى ذلك العصر، وقد قام العلماء بإنتاج العطر حسب الوصفة المكتوبة ليكون إعادة انتاج لأقدم عطر في التاريخ معروف حتى الآن.
كسر السلسلة الإنتاجية حصل في مواد كثيرة، فالمنطقة تنتج أفضل يانسون في العالم يتم تصدير معظمه إلى إلمانيا التي تستخدمه في صناعة الدواء ثم نقوم باستيراده على شكل كبسولات للعلاج.. كذلك الأمر بالنسبة إلى النبيذ، الشراب الأقدم في المنطقة، فقد اشتهرت به فرنسا بعد استقالتنا من عملية الإنتاج العالمي، رغم أننا ننتج أفضل أنواع العنب!
اكتشاف ألواح تعود إلى ما قبل الميلاد عن كيفية صناعة البيرة، لم يكن غريباً في بلاد سومر، كذلك الأمر بالنسبة لمعدات التجميل والماكياج التي صنعت من منتجات الأرض، والتي تزينت بها المرأة السورية عبر الحضارات المتعاقبة. استنادًا إلى كل ذلك، أليس منطقيًا أن نسأل لماذا كنا نصنع كل شيء وبتنا اليوم نستورد كل شيء؟
التكامل الاقتصادي الحياتي في المنطقة، أمر أدركه الأقدمون عندما كتبوا الأساطير لتعبر عن أسلوب تفكيرهم وعيشهم. لكن هذا التكامل تضرر وتلاشى رويدًا مع تفاقم ظروف الانحطاط والاستعمار على الأمة. حتى على صعيد ارتباط اللون الأزرق بلباس المواليد الذكور، والأحمر الزهري بالمواليد الإناث المعتمد عالميًا، يعود للسوريين الفضل في اكتشافه، حيث كانت تلك الحضارة الموغلة في الزمن قادرة على صياغة أذواق الشعوب وطقوسهم وعاداتهم نتيجة التطور الحاصل.
اخترعنا أول شرائع في التاريخ وهي قوانين حمورابي، لكننا أصبحنا بلدانًا مليئة بالمظالم! ومن أساطير الخلق والتكوين التي كتبها السومريون والبابليون وغيرهم، أخذت الأديان تفسيراتها للعالم والوجود، لكننا بتنا مشرذمين غارقين بالطائفية والتفسير المحدود للكون!
بالطبع، هناك بتر حصل في عملية الإنتاج الفكري والاقتصادي، وربما يكون هذا هو سبب الخلل الذي تعانيه المنطقة حتى الآن.
من الغريب أن نكون أبناء زنوبيا وعشتار وإنانا وأوروبا، وتكون بلادنا اليوم غارقة في استعباد المرأة والنظر إليها كضلع قاصر! فالقطع في السلسلة الفكرية أدى إلى كوارث اجتماعية كبيرة لم نعمل على إصلاحها وعمل الاستعمار على تكريسها وتقويتها بحيث تتحول إلى أمراض مستعصية. فكل ما كنا عليه، أصبحنا ضده، وهو ما أخرجنا من التاريخ بكل بساطة!
نحتاج إلى التقاط الأنفاس ومواجهة الذات بمنتهى الصراحة والوضوح، هل سنستعيد مكانتنا اللائقة، أم سنتلاشى ونخرج من التاريخ؟
1 Comment
التوجه للانتاج والتصنيع مطلوب للعودة لمصافي الامم الرائدة والمقال يضيء على جوانب نيرة من تراثنا
قوانين حمورابي الاكمل حتى تاريخها وسبقتها قوانين اورنمو ثم اوركاجينا ونارام سن ….