الوَرَثة المُبَذّرون.. جولييت المير، صفيّة، أليسار وراغدة سعادة

Share

ينشر بالتزامن مع موقع “سيرجيل” https://sergil.net/

هذا النص، لماذا؟

كُتب هذا النص بمناسبة نشرِ بيان في جريدة الأخبار اللبنانيّة (22 نيسان 2022)، صادر عن (وَرَثة سعادة) وبتوقيع الدكتورة صفيّة أنطون سعادة. والبيان في محتواه يطرح مسألة حقوق (الوَرَثة) في كتاب صدر للسيدة ريجينا صنيفر باللغة العربية بعنوان: ضياء في ظلمات المشرق – من مذكّرات الأمينة الأولى- بعد أن كان قد صدر بالفرنسيّة في العام 2019.

يحدد البيان طبيعة المسألة بكونها قانونية، ناشئة من عدم حصول السيدة صنيفر على إذن خطي يخولّها تحويل مذكرات الأمينة الأولى التي صدرت بمناسبة مئوية ميلاد سعادة 2004، إلى قصة. أي أن السيدة صنيفر أعادت إنتاج المذكرات بأسلوبها الخاص. وفي ذلك حسب البيان يتم تجاهل حقوق الوَرَثة.

لا يُقارب البيان الكتاب، بأي معنى نقدي، ويكتفي بالإشارة إلى اعتماد المؤلفة أحياناً النقل الحرفي لمقاطع من المذكّرات. (يستمد كتاب السيدة صنيفر جماليته ويحظى باهتمام خاص بسبب من محتواه الثري وأسلوبه، وبسبب إضافي يعود لكاتبته وماضيها وانقلابها عليه).

أثار البيان ردود أفعال مختلفة، خرجت في أغلبها عن الإطار القانوني، نحو عناوين ليست مطروحة أصلاً. وفي خلفيّة بعض ردود الأفعال، يبدو ذلك التساؤل الاستنكاري:

هل لأنطون سعادة وجولييت المير وَرَثة حقاً؟!

هذا النص، كُتب تحت ضغط هذا التساؤل، وهو ضغط سبب لي ألماً عميقاً – يوازي الألم الذي أصابني عندما قرأت مذكّرات الأمينة الأولى عندما صدرت. ألمٌ أرجو أن لا يطاول أي أحد آخر غيري.

سعادة الذي أقسم على أن يقف نفسه على أمته ووطنه، هو (ملك الأمّة)؟

فإن كان نفسه ملكاً للأمّة، فعن أيَّة أملاك يتحدثون؟

-1-

إذاً… لـ سعادة (وَرَثَة)؟ وهو (موَرّث) وكان يملك (شيئاً ما) للتوريث؟

يا للعجب!!

أليس في بالنا، أنَّ سعادة الذي أقسم على أن يقف نفسه على أمته ووطنه، هو (ملك الأمّة)؟ فإن كان نفسه ملكاً للأمّة، فعن أيَّة أملاك يتحدثون؟

هكذا – نحن دولته وأمته المُصغّرة – بدأنا بحثاً دؤوباً عن هذه الأملاك. نقبّنا وفتشنا في الوطن والمغترب، فلم نجد سوى عائلته: زوجته وبناته الثلاث، فقررنا بتوافق ضمني الشروع بـ (تأميمهم) واعتبارهم (أملاك وقف) لدولتنا، وبعد كل هذا الوقت يأتي اليوم من ينسب لنفسه صفة الوارث!!

أيكون هذا (الادعاء بالوراثة) من تنويعات (الثورات الملّونة) المتنقلة، أم أننا، حينها وفي ذلك التاريخ البعيد، قد ارتكبنا خطأً ما وتركنا وراءنا ثغرة لم ننتبه إلى فداحتها؟

-2-

عندما كان سعادة يتجه نحو ذروة من ذروات التراجيديا السّوريّة المعاصرة فجر الثامن من تموز، طلب لمرتين متتاليتين أن يرى زوجته وبناته، لكن طلبه رُفض، (وسُئل لمن يريد أن يترك الليرات الأربعمئة التي وُجدت معه، فأجاب أنّها وقطعة أرضٍ في ضهور الشوير هي كل ما يملك وهو يوصي بها لزوجته وبناته بالتساوي…… وتطلع الزعيم إلى نعشه فلم تتغير ملامحه ولا ابتسامته. وقبل أن يرقى – الجيب – طلب للمرة الثالثة والأخيرة أن يرى زوجته وأولاده، وللمرة الثالثة والأخيرة سمع الجواب نفسه، فتبيّنتُ ملامحه وفي تلك اللمحة العابرة فقط من عمر ذلك الليل لمحتُ وميض العاطفة خلال زوبعة الرجولة – مقطع من نص: الكاهن الذي عرّفه، سعيد تقي الدين).

(وميض العاطفة)؟

هو ليس سوى تلك الدمعة الحارقة المرّة التي سكبتها تلك العين الرؤيويّة التي اعتادت التحديق بالأعماق، كشفاً لها كي لا نتأبّد في مساكن الظلمة.

(وميض العاطفة)؟

هو ذلك المشهد الخاطف كنيزك برّاق، عندما نرى البطولة في أرقى تجليّاتها مغمورة بغمام الحبِّ الشفيف النبيل من حزنٍ أرقُ من أجنحة الملائكة.

(وميض العاطفة)؟

ما كان له أن يلمع في ذلك الفجر الدامي، لولّا أن ذلك البطل الملحمي أبٌ وله زوجة وثلاث طفلات شُتِلنَ كغراس طريّة ستعصف بهنَّ رياح الفقدان الموجع.

(وميض العاطفة)؟

هو من اختطف ذلك الرجل لبرهة أقصر من ثانية، من (الزعيم) إلى (أنطون خليل سعادة) الرجل… رجلٌ من لحم ودم.

-3-

الليرات الأربعمئة…!!

أية مصادفة غريبة، بل أي قدر رتب هذا التساوي المطلق:

الوِرثة النقدية: 400 ليرة.

الَورَثَة: 4 أفراد.

إذاً، لكل واحدة منهنّ 100 ليرة عدّاً ونقداً.

هكذا، ومنذ فجر الثامن من تموز بدأ (الوَرَثَة) بالتنعّم بثروتهم وتبذيرها يمنة ويسرة ولا زالوا!!

الحقيقة المؤكدة، أنَّ أنطون سعادة الرجل وربّ العائلة أوصى لزوجته وبناته بـ (ثروته)، فهو (مورّث) وهنّ (وَرَثة). لكن ماذا وَرِثن فعلاً؟

 دون عناء ستراهنَّ وقد وَرِثن دورهنَّ ومهماتهنَّ، في طريق الآلام الذي عبره سيتم اختتام الفصل الأخير من إحدى ذروات التراجيديا السوريّة المعاصرة.

أكنّا ضعفاء بنظر سعادة، للدرجة التي خصص فيها لحظاته الأخيرة لنا، فلم يتركنا وهو يسير أمام نعشه؟

-4-

لم يوصنا سعادة بزوجته،

ولم يوصنا بكريماته.

المسيح الذي هو (ابن الله) ذاته، أوصى بأمّه (والدة الإله)، عندما (وميض العاطفة) حلّ به، وهو على الصليب. خاطب يوحنا قائلاً: هذه هي أمك. المسيح الذي (القَدَر) من مقتنياته لم يثق به وبغدره فأوصى يوحنا الحبيب أقرب التلاميذ إليه بأن يعتني بأمه.

سعادة، لم يفعل… لم يوصنا.

يا للهول…!!

أكنّا ضعفاء بنظر سعادة، للدرجة التي خصص فيها لحظاته الأخيرة لنا، فلم يتركنا وهو يسير أمام نعشه؟ فأنجز (مراسم البطولة) أمام عمود الإعدام على أكمل صورة وأبهاها…؟ حتى يمنحنا تلك الطاقة التي لا تخبو من ضعفٍ، ولا يلويها زمن، حتى ولو هُزمنا مرة تلو الأخرى؟

بلى،

بعد رفض طلبه للمرة الثالثة، ترك سعادة عائلته كقربان على مائدة الزمن، وانصرف بكلّيته نحونا.

كان قاسيًا مع فلذات كبده… قاسيًا ليموت كرجل ويتركهنَّ.

ووصل إلى ذروة العطاء والفداء مع (فلذات نهضته / نحن).

لم يوصنا بهنَّ أبداً.

ولكن حفّزنا / أوصانا بالانتصار… ولم نتمكن أبداً.

-5-

تقطّعت قلوبنا على الأمينة الأولى وبناتها، بكاءً مراً لم يتوقف ونحن نرى الطفلات الثلاث مع أمهنَّ… دون سعادة. غمرناهنَّ عاطفة جيّاشة وحبّاً عميقاً لا قرار له… كنّا جميعاً في التاسع من تموز 1949، في حالة من الفقدان الأبدي.

(دولتنا – الأمّة المصغّرة)، تصرّفت بتقاليد النخوة والشهامة والكرم والإغاثة… ولكنها لم تتصرف بمبدأ الدولة. لم تبادر إلى اتخاذ قرار بقوة القانون يحفظ حياة وكرامة عائلة سعادة، بل صادرت حياتها بطوق من (البطريركيّة الذكوريّة) الخانقة التي سببت جروحاً عميقة لا تزال تنزُّ أسى ومرارة كطعم الخلِّ الذي تذوقه المسيح على الصليب. (دولتنا…) لم تبادر حتى لإقرار برتوكول خاص يلحظ المكانة الرمزيّة لعائلة الشهيد – الملحمي – الزعيم.

المجتمعات والدول الراقية تفعل المستحيل كي تحافظ على رموزها. لأنَّ الرموز هي مناجم الروح الواحدة الموحدة.

عجيب سعادة!!

منحنا شعوراً أننا نتساوى جميعنا بالنسبة إليه وبقرابتنا له… وقد نشعر أننا أقرب إليه من عائلته…!!

عجيب سعادة!!

كان معنا، في صفنا، عندما أقصيناه بعيداً كـ (ربِّ أسرة) ليبقى فقط (الزعيم)… زعيم النهضة. [إرث نكران سعادة الرجل، بدأه بعضنا عندما اعترض على زواجه، واستكمله بعضنا الآخر عندما اجتهد كي يقصي (الأب) بعيداً عن مناداة البنات الثلاث له، ويحضر (الزعيم)]  

بموته كرجل وربِّ أسرة… لم تبق الأسرة. جولييت المير ستطوّب كـ (أمينة أولى) وستنجز بطولة استثنائية تحيلها إلى أيقونة للمرأة السوريّة … وكان على البنات تدبر أمرهن وإيجاد مكان لهنَّ بيننا، في (دولتنا). وإلاَّ سيُعتَبرن دون قيود تثبت نسبهنَّ؟

-6-

كان عمي يدندن من فينة لأخرى: راغدة بنت سعادي… وبيّا زعيم بلادي.

كان عمي من بين الحرس الذين كانوا يسهرون على سلامة الطفلات وأمهنَّ عندما جاؤوا إلى مرمريتا.

كنت أتساءل دوماً: لماذا راغدة؟ وليست صفيّة أو أليسار؟

بعد زمن طويل من ترداد تلك الدندنة، انكشف سرّ راغدة:

كان الحرس يدندن لراغدة الصغيرة النائمة…

أليسار كانت في وسط الحلقة…

صفيّة كانت متمردة… حائرة تبحث عن أبيها؟

مضت أكثر من سبعين سنة على تلك الدندنة…

راغدة لا زالت نائمة،

أليسار في وسط حلقتنا،

صفيّة لا تزال متمردة وتبحث عن أبيها…؟

-7-

ورّث سعادة زوجته وبناته الليرات الأربعمئة (التي لا أعرف إن سُلّمت لهنَّ أو لم تسلّم)؟ وبذّرت العائلة هذه (الثروة)؟

لكن، ماذا بالنسبة لنا؟

نحنُ ورثنا النهضة… فماذا فعلنا بها؟

-8-

مَن كان منّا واثقاً أنّه لم يبذّر من رأسمال هذه النهضة،

فليوقظ راغدة من غفوتها لتسمع هذا الضجيج الذي سيأسرها في قلقٍ مزمنٍ…

ويبعد أليسار من وسط الحلقة، وهي التي تحلّقت حولها المآسي الكاوية، علّها ترى كيف نبدو من بعيد…؟

ويصرخ بوجه صفيّة: أباك، الرجل من لحم ودم مات… الزعيم حيٌّ وخالد… علّها تنزل مرساة التمرد وتطفئ شوق بنيّة حلمت أن تسمع مع أبيها سنفونية عايدة لفيردي، أو الخامسة لبيتهوفن… ولعلّها تجرّأت ذات يوم وهي تلبس رداء التخرج من الجامعة… تجرأت وحلمت بوجوده فرحاً يصفّق لها… بحثت عنه وبحث طويلاً وعبثاً.

-9-

فلسفيّاً:

(وميض العاطفة)؟

انتفاضة القلب على (عقل) مستسلم لنفسه وهو يتجه نحو التجرّد المطلق. القلب يعيده إلى العالم المحسوس…يعيد وصله بشرايين من دم.

-10

كنزٌ لن نتمكن من وراثته من سعادة:

لو وافق الجلاّد على طلبه برؤية زوجته وبناته،

أي مشهد استثنائي كان سيُنحت في تاريخنا؟

وماذا كان سعادة سيقول لهنَّ؟

كنزٌ اغتاله الجلاّد مع استشهاد سعادة.

0
0

1 Comment

Raymond El Jamal 2 مايو، 2022 - 7:07 م

MUMTAZ YA AMINE NIZAR right to the point

Post Comment