مقدمة:
إن نظام الأواني المستطرقة الذي يحكم توازنات الهلال الخصيب يفرض أن ارتفاع منسوب الأحداث في أحد أركان المنطقة سينعكس لاحقًا ارتفاعًا لمنسوب أحداث مشابهة في بقية الأركان. وكما اعتمدت الولايات المتحدة على دعم نشوء منطقة عازلة تطورت إلى كيان كردي في شمال العراق بعد غزو العراق للكويت في 1990، وبشكل أكثر وضوحا بعد غزو العراق في 2003، كذلك هي تدعم نشوء كيان كردي في شمال سورية منذ عام 2016. إنها تستعمل القلم الكردي في كلا الحالتين من ضمن مجموعة أقلام أخرى لإعادة هندسة الجغرافية السياسية للهلال الخصيب. وبالتالي فالعلاقة بين الإدارة الذاتية الكردية في شمال سورية وبين الولايات المتحدة هي علاقة متجذّرة، تضرب عميقًا في الخطط الأمريكية لإعادة هندسة المنطقة وليست مجرد تحالف لمواجهة تنظيم داعش أو احتواء تركيا أو تشتيت الأوراق الروسية الإيرانية في سورية
الهامش الجغرافي:
إن مراجعة سريعة لتاريخ منطقة الجزيرة السورية (استطرادًا، شمال سورية) خلال المئة عام الأخيرة تعطي الانطباع بأن هذه المنطقة هي هامش جغرافي تتجه الأنظار الإقليمية والدولية إليه عند الحاجة إلى التخلص من هامش ديمغرافي ما. ففي عام 1910 تطلع الصهاينة إلى الجزيرة السورية باعتبارها مكانًا ملائمًا لتوطين الفلسطينيين بعد ترحيلهم (المَصَالحَة، نور الدين، طرد الفلسطينيين: مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيوني)، ومن ثم عاد هذا المقترح إلى الظهور ضمن ما سمي مشروع “لجنة بيل” عام 1937، المتضمن دراسة أماكن ترحيل اللاجئين الفلسطينيين وإعادة توطينهم. إلا أن هذا المقترح اصطدم بالمعارضة الفرنسية آنذاك. وبعد حرب العام 1948، ظهرت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بشكل أكثر قوة وإلحاحًا. ومع دخول الولايات المتحدة إلى المسرح الشرق أوسطي، تبنت الإدارة الأمريكية الأفكار الصهيونية حول توطين الفلسطينيين في الجزيرة السورية وقدمتها إلى حكومة جميل مردم بك التي لم تستطع البت بها، فكان أن أتى الأمريكيون بحسني الزعيم عام 1949، في أول انقلاب عسكري شهدته الشام بعد الاستقلال. لكن حسني الزعيم لم يثبت في كرسي السلطة طويلا إذ أطاح به السوريون القوميون. إنها لمفارقة تدعو إلى التأمل، أن دماء انطون سعاده هي التي ذهبت بحسني الزعيم، الحصان الذي طالما راهن عليه الأمريكيون لتنفيذ مشاريعهم في مد خطوط نفط التابلاين، وفي توطين الفلسطينيين، والذي سلّم سعاده للسلطات اللبنانية لكي تقتله.
في منتصف الخمسينيات، حاول أديب الشيشكلي تنفيذ مشروع إنمائي شامل يتضمن توطين الفلسطينيين بتمويل أمريكي مع تقديم دعم عسكري أمريكي. إلا أن الولايات المتحدة لم تنفذ تعهدها بتقديم السلاح للشيشكلي فتوقف تنفيذ المشروع. وكان قد سبق كل هذا، في الفترة بين عامي (1915-1916)، قيام الأتراك بسياسات “الهندسة الديمغرافية” اتجاه كافة القوميات غير التركية ضمن الجغرافية التركية آنذاك. فشهدت منطقة الجزيرة، باعتبارها هامشًا جغرافيًا، موجات هجرة قسرية للأرمن (باعتبارهم هامش ديمغرافي مطلوب حذفه) من موطنهم الأصلي شرق الأناضول إلى متصرفية حلب ومن ثم دير الزور حيث ارتكبت مجازر إبادة بحقهم. ومن ثم توالت في سياق مشابه موجات هجرة الأرمن والسريان بين عامي (1922-1924) على خلفية مجازر سيفو التي تابع الأتراك ارتكابها بحق السريان والأرمن. وبين عامي (1925-1940)، هاجرت موجات من العشائر الكردية على خلفية سياسات التتريك والتطهير العرقي من جنوب تركيا واستقرت في الجزيرة السورية.
بدأ الحديث التركي عن إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري منذ العام 2012. حينها، طرحت الأوساط الأكاديمية، السياسية والإعلامية التركية، إقامة المنطقة العازلة من باب استيعاب موجات اللاجئين الذين بدأوا بالتدفق على تركيا نتيجة الاضطرابات التي شهدتها الشام منذ عام 2011، لكن أيًا من القوى الإقليمية والدولية لم يلق بالا إلى هذا المطالبات التركية.
هل لا زال الهامش قائما؟
مؤخرًا، عادت المعزوفة التركية حول المنطقة الآمنة في الشمال السوري إلى الواجهة مع تداخل عدة عوامل تقف خلف المطالبات التركية:
- يريد الأتراك، وكذلك الأوروبيون، كل لأسبابه، التخلص من أزمة اللاجئين السوريين في تركيا. فحزب العدالة والتنمية، وبعد خسارته الأخيرة في انتخابات الإعادة في اسطنبول، قرر إتباع سياسات إبعاد بحق اللاجئين السوريين بعدما كان يستعمل ملفهم كورقة لابتزاز الأوروبيين وللتدخل في أي تسوية للنزاع السوري. أما الأوروبيون، فينظرون إلى اللاجئين السوريين في تركيا كقنبلة موقوتة معرضة دومًا للانفجار في وجههم، لذلك ظهر توجه دولي إقليمي لمعالجة هذا الملف داخل الأراضي السورية.
- تمثل الإدارة الذاتية الكردية في شمال سورية، على المدى الطويل، تهديدًا للأمن القومي التركي، لذلك يريد الأتراك معالجة هذا الأمر بإيجاد
حاجز بشري من اللاجئين السوريين يعزل التأثير الكردي السوري عن أكراد تركيا وفق النموذج الذي جرى إتباعه في عفرين - يطالب الأتراك بشريط حدودي بعرض 30 كم على طول الشمال السوري بمسافة 460 كم كمنطقة آمنة تقطع اتصال مناطق الإدارة الذاتية بجبال قنديل في العراق وتخضع للإدارة التركية مع الإشارة إلى أن هذه المنطقة غنية بالنفط والغاز وهو ما يعتبر من العوامل الخفية في المطالبة التركية خاصة أن السعي التركي لاستثمار حقول الغاز شرق المتوسط قبالة السواحل القبرصية يصطدم بالتحالف الأمريكي القبرصي اليوناني الإسرائيلي. هذا التحالف، عبّر عنه مشروع قانون “الشركة الطاقة والأمن في شرق المتوسط” الذي جرى تقديمه إلى مجلس الشيوخ الأمريكي والذي ينال دعم الحزبين الديمقراطي والجمهوري. ويهدف مشروع القانون هذا إلى عرقلة جهود تركيا للتنقيب عن النفط قبالة السواحل القبرصية عقابًا لها على المضي في صفقة S400 مع روسيا وكذلك على الشراكة الروسية التركية في مجال الطاقة المتمثلة في مشروع السيل الجنوبي، حيث تعمل الولايات المتحدة إيجاد تحالف يوناني قبرصي اسرائيلي لتزويد أوروبا بالغاز بديلًا عن التحالف التركي الروسي ومسارات الطاقة الخاصة به.
- وبناءً على هذا التجاذب التركي الأمريكي، لم يوافق الأمريكيون إلا على منطقة آمنة بعرض 5 كم ومسافة 150 كم وهو شريط حدودي لا يتيح للأتراك الاستفادة من النفط والغاز في الشمال السوري كما أنه لا يقطع اتصال الإدارة الذاتية مع جبال قنديل في شمال العراق وهنا يبدو جليا الإصرار الأمريكي على احتواء المطالبات التركية وإفراغها من محتواها
بالعودة إلى الخطط الصهيونية التي جرى تداولها حول توطين الفلسطينيين في منطقة الجزيرة السورية في مطلع القرن الماضي، يمكن القول إن للصهاينة علاقة خاصة بالزمن وان أفكارهم وخططهم لا تسقط بالتقادم، وحين يتزامن الحديث عن صفقة القرن التي جرى عرض بعض نقاطها في مؤتمر البحرين 25/6/2019 مع هذا التوافق الأمريكي التركي الجزئي حول منطقة آمنة في شمال سورية سيكون السؤال الاحتمالي على ضوء الخطط الصهيونية المذكورة أعلاه: هل هناك أي رابط بين صفقة القرن وبين المنطقة الآمنة في الشمال السوري؟.