يتناول بعض المحللين السياسيين في العالم العربي موضوع ما اصطلح عليه بـ”الناتو العربي” من منطلق أنه من بنات أفكار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأن هذا الحلف سيكون جزءاً من “الصفقة الكبرى” التي تعمل عليها الإدارة الأميركية الحالية لحل “الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني”. وهؤلاء المحللون محقّون في الاعتبار الثاني، لكنهم أبعد ما يكونون عن الحقيقة الاستراتيجية لتمدد حلف شمال الأطلسي (الناتو) على مستوى العالم، وبالتحديد في حوض البحر الأبيض المتوسط منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وزوال “حلف وارسو” في مطلع تسعينات القرن الماضي.
خطة التنسيق بين “الناتو” وبعض الدول العربية تسبق وصول ترامب إلى سدة الرئاسة بسنوات. غير أن ما يُسجّل له أو عليه هو أنه يعمل على ربطها الآن بـ”صفقة العصر” التي يراهن على أن تكون “إنجازه التاريخي” الذي سيضاهي به إنجازات (أو فشل) كل من سبقه من الرؤساء الأميركيين في ما يتعلق بحل “أزمة الشرق الأوسط”. يُضاف إلى ذلك إقدامه على إدخال ملف التعامل مع إيران، ليصبح أمامنا ثالوث مترابط من المشاريع المعقدة للمنطقة.
في العام 2004 أطلق زعماء دول “الناتو” من تركيا خطة أطلقوا عليها اسم “مبادرة اسطنبول” بهدف “تعزيز الروابط الأمنية بين الحلف ودول الشرق الأوسط، خصوصاً في الخليج”، حسب ما أوردت وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب) في تلك الفترة. وفي ضوء تلك المبادرة، أنشأ الحلف عدداً من “المراكز الأطلسية” في بعض الدول الخليجية على مدى السنوات التالية، وفق خطة ممنهجة تسعى إلى “تعزيز التعاون بين الجانبين في العديد من الجوانب من بينها التحليل الاستراتيجي والتخطيط للطوارئ المدنية والتعاون العسكري”. (أ ف ب تاريخ 24 كانون الثاني 2017)
ولا يمكننا عزل نشوء “مبادرة اسطنبول” عمّا كان يقوم به “الناتو” آنذاك في أفغانستان والعراق، حيث احتلت القوات الأطلسية هذين البلدين بينما كانت قيادة الولايات المتحدة الأميركية تهدد بعبارات لا تحتمل التأويل كلاً من إيران وسوريا ومعهما كل القوى الرافضة للهيمنة الأطلسية على مصير العالم العربي ومقدراته. وفي هذا السياق بالذات يمكننا أن نفهم الاستهدافات الحقيقية للحرب الأطلسية على ليبيا العام 2011، والتدخلات الأطلسية المباشرة وغير المباشرة في الأزمة السورية المستمرة منذ العام 2011… وقبلهما الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006.
لذلك نحن نقترح الفصل بين مشروع إنشاء “الناتو العربي” بوصفه منظومة أمنية عسكرية على المستوى الاستراتيجي مرتبطة عضوياً مع “الناتو” الأصلي، وبين الاستخدامات المحتملة لتلك المنظومة حسب الظروف والاحتياجات. إن كلامنا هذا لا يعني التسليم التلقائي بنجاح “الناتو” في مشروعه العربي، ذلك أن التطورات السياسية الواقعية ستجعل من الصعب رأب التصدعات بين “الحلفاء” الذين يعوّل عليهم “الناتو” (مثال خليجي: قطر ـ السعودية ـ الإمارات، ومثال إقليمي: تركيا ـ مصر ـ السعودية ـ الإمارات). في هذه الحالة، سيجد الأطلسيون أنفسهم أمام ضرورة الانطلاق بمن يوافق ويحضر!
وسواء انتظم عقد الأعضاء في “الناتو العربي” أو لم ينتظم، وسواء نشأت مؤسساته أو ظلت فضفاضة حتى إشعار آخر، فإن ما يحدث على أرض الواقع يشير إلى أن هذا الفرع من “الناتو” بات فاعلاً على أكثر من صعيد. يكفي أن ننظر إلى غرفتي العمليات اللتين أقيمتا في الأردن وتركيا لتنسيق التدخل في الأزمة السورية، وجمعتا قوى عالمية وإقليمية لخدمة ذلك المخطط، حتى يتبين لنا بوضوح أن “الناتو” تمكن من توظيف عدد من الدول في خطة كان يُراد لها أن تستنسخ التجربة الليبية… لكن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر هذه المرة
“الناتو” أصبح موجوداً في كل دول حوض البحر الأبيض المتوسط، بشكل أو بآخر، بما فيها سوريا التي كانت عصية على المشروع الأطلسي لعقود من الزمن. لكن الحرب هناك أتاحت المجال للقوات الأميركية (والفرنسية والبريطانية أيضاً) لتأمين موطئ قدم في مناطق شرقي الفرات ليكتمل الوجود الأطلسي في المتوسط من المغرب إلى سوريا… أما الجانب الأوروبي فهو أطلسي منذ البداية.
إن التطورات السياسية في العالم العربي أوجدت عقداً صعبة الفكاك بين الدول المرشحة لعضوية “الناتو العربي”. لكن هذا ليس بيت القصيد بالنسبة إلى القيادة الأطلسية المركزية. فالمطلوب الآن وجود أدوات محلية تبرر التدخل الأطلسي المباشر وتغطيه، أما الأطر التنظيمية فلا تشكل سوى عنصر جذب قد لا يجد طريقه إلى التنفيذ على المدى المنظور.