المعابر العصية -شرايين سورية الطبيعية-حسّان يونس

Share

حسّان يونس

كان الحال في سورية الطبيعية مختلفا عن بقية العالم العربي، حيث رسم مشرط التقسيم الغربي حدوداً سياسية لا تمت إلى تاريخ المنطقة بصلة في إطار ما يعرف باتفاقية سايكس – بيكو. وكان جوهر هذه الاتفاقية تقسيم الهلال الخصيب بل وتمزيقه ما أمكن، فتم فصل الكيانين العراقي والشامي، ومن ثم تم تقسيم الساحل السوري ما بين الكيان الشامي والكيان اللبناني والكيان الفلسطيني الذي تم اقتطاعه لصالح الحركة الصهيونية بواجهة انتداب بريطاني. ومن ثم تم اقتطاع سيناء عام 1906 لصالح مصر. واستكمِل تقسيم الساحل السوري من خلال إدخال تركيا الاتاتوركية طرفا ثالثا في الاتفاق بديلا عن الروس، فاقتطِع الشمال السوري المسمّى كيليكيا عام 1921 وصولا إلى المتوسط لصالح تركيا وأعيد لاحقا استكمال تقسيم الساحل السوري فاقتطِع سنجق لواء اسكندرون عام 1939 لصالح الأتراك بالتواطؤ مع الفرنسيين وبعض شخصيات الكتلة الوطنية التي كانت تحكم سورية.

إن هذا التقسيم المتعدد زمنيا ومكانيا للساحل السوري على المتوسط يكشف الأهمية التي كان يضعها صانع القرار الدولي آنذاك (واستطرادا الآن) على عزل الكيان الشامي وإضعاف فعالية واجهته البحرية؛ أمر تعرض له كذلك الكيان العراقي من خلال اقتطاع الكويت 1913 باتفاق بريطاني- عثماني وعزله عن واجهته البحرية الكويتية، واقتطاع الأهواز عام 1925 لصالح إيران الشاه وجعل اتصاله مع العالم مقتصرا على ميناء واحد لا يفي باحتياجاته الضخمة. سياسة تدخل في مجملها ضمن سياسة عامة لعزل سورية الطبيعية وخنقها وحصارها إذا ما اقتضى الأمر ذلك. وكان من سخرية القدر أو من خبث السياسة الدولية أن تعرض الكيانان العراقي والشامي للحصار البحري الخانق في فترات متفاوتة عند التحضير للهجوم المباشر وغير المباشر عليهما حيث حوصر الكيان الشامي حصارا خانقا في مطلع الثمانينات عندما نشطت جماعة الإخوان المسلمين بشكل عنيف فتصدت لها الدولة السورية، كما حوصر الكيان العراقي منذ عام 1991 وحتى الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003.

بعد الحرب العالمية الثانية انزاح مركز ثقل القرار الغربي عن أوروبا الغربية ليستقر في واشنطن بحيث ظل البريطانيون شركاء في صناعة هذا القرار وخلال فترة الانزياح هذه ونتيجة الصراع المتصاعد بين الرأسمالية الغربية والشيوعية ظهرت فرصة في العام 1955 من أهم الفرص الضائعة في تاريخ سورية الحديث عندما طرح البريطانيون مشروع حلف بغداد لمواجهة المد الشيوعي والذي يتلخص في إقامة اتحاد بين دمشق وبغداد يكون ضمن دائرة النفوذ الغربي بعيدا عن التهديد، هذه الفرصة الذهبية التي سمحت بها تناقضات السياسة الدولية آنذاك أضاعها ساسة الكيان الشامي مفضلين الالتفات إلى مصر عبد الناصر من خلال تجربة الوحدة في عام 1956 والتي كانت نموذجا لانكشاف سراب الفكر القومي العربي وكان أكثر الذين استوعبوا العبرة من هذه التجربة هو الرئيس حافظ الأسد نتيجة عوامل كثيرة لا يسعنا ذكرها، معبرا عن ذلك في خطاب تاريخي ألقاه في تموز من عام 1975 خلال المؤتمر القومي الثاني عشر لحزب البعث، و تحدث فيه بإسهاب عن “الهلال الخصيب” وقال “لماذا كنا ننزعج من هذا الاسم، وماذا كان يصيبنا لو تحققت وحدة سورية قبل 30 سنة أما كنا أقوى وهل كانت إسرائيل لتقوم لو كنا موحدين؟” وشدد على أن سورية الكبرى أو الطبيعية هي حقيقة موجودة، كما كرر الحديث عن سورية الطبيعية في عدة مناسبات بين 1975 و1981 , في العام 1978-1979 تكرس هذه الوعي الجديد لدى حافظ الأسد نتيجة عوامل موضوعية عدة في تقارب سوري عراقي حيث حاولت قيادة احمد حسن البكر، وحافط الأسد إعادة الوحدة بين العراق وسورية، لكن صانع القرار الدولي وضع إصبعه على الخارطة مرة أخرى فكان انقلاب صدام حسين في العام 1979 الذي قلب معادلات الوحدة في الهلال الخصيب إلى شقاق واحتراب سياسي استمر حتى العام 1991 حين خضع العراق للحصار الأمريكي الخانق حيث حرص الأمريكيون بشكل لافت على أن لا يستفيد العراق من العمق الجغرافي الشامي في تجاوز الحصار وهددوا عدة مرات بضرب خط نفط البصرة – بانياس بعد تقارير عن إعادة تفعيله لتصدير النفط العراقي.

 إن هذا في مجمله يوضح أن ما يحرّك القرار الدولي هو تقسيم وتمزيق سورية الطبيعية والقضاء على فعالية واجهتها البحرية تمهيدا لحصارها وخنقها.

وإذا كان صانع القرار هذا استطاع خلال المئة العام الأخيرة فرض فصل سياسي، ومن ثم عمل ويعمل حاليا على فرض انقسام مذهبي اثني اجتماعي بين كيانات سورية الطبيعية، وتمكن كذلك من اقتطاع الكثير من المناطق الحدودية والواجهات البحرية لصالح دول الجوار، فان الروابط الجغرافية بين الكيانات السورية ظلت عصية على استيعاب صانع هذا القرار. تعتبر المعابر بين الكيانات أحد الروابط الجغرافية الهامة، إذ يتصل الكيان السوري بالكيان اللبناني من خلال خمسة معابر ويتصل مع الكيان الأردني بمعبر واحد ومع الكيان العراقي من خلال ثلاثة معابر. كما تمثل هذه المعابر الداخلية الواصلة بين كيانات سورية الطبيعية أهمية قصوى، وتعبر عن مكر الجغرافية في مواجهة محاولات جعل الكيانين العراقي والشامي معرضين على الدوام للحصار، ومن ثم الخنق الاقتصادي.

كما تعبر عن الدور الشرياني لموقع سورية الطبيعية في العالم وللدلالة على ذلك يكفي أن نعرف ان توقف الحركة البرية بين لبنان والأردن وسورية الناتج عن إغلاق معبر نصيب خلال السنوات الماضية تسبب بخسارة الأردن 900 مليون دولار فيما خسر لبنان 800 مليون دولار وخسرت سورية خمسة مليارات دولار بواقع 20 مليون دولار يومياً. وفي الجانب الأردنيّ، حيث انعكس إغلاق هذا المعبر على الشام ولبنان وتركيا وأطراف عديدة أخرى، فهو بوابة الشام إلى الجنوب وإلى الخليج العربي وبوابة الأردن إلى أوروبا والغرب ويحقق فوائد اقتصادية ضخمة. اذ أن التبادل الاقتصادي بين سوريا والأردن بلغ في العام 2010، ما قيمته 615 مليون دولار، وتراجع هذا التبادل تدريجيا خلال سنيّ الحرب إلى أقل من 20 مليون دولار، ليتوقف وبشكلٍ نهائي منذ العام 2015 إثر سيطرة المجموعات المسلّحة على المعبر، وكانت (172) شركة تخليص جمركي ونقل تعمل على الجانب الأردني من المعبر قبل إغلاقه، بالإضافة إلى وجود منطقة حرة مشتركة ترتبط مباشرة بمعبرين منفصلين إلى الداخل السوري والأردني، وهذه المنطقة قامت بدور إيجابي مهم في اقتصاد الدولتين، ووفرت فرص عمل لأكثر من (4) آلاف شخص من البلدين، وكانت تحوي حوالي (35) مصنعا وأكثر من (100) معرض سيارات وعشرات المحال التجارية وساحات للشاحنات ومستودعات لممارسة كافة الأنشطة التجارية.

واليوم مع فتح معبر نصيب – جابر والتحضير لفتح معبر البوكمال- القائم يتبين بوضوح أن الدورة الاقتصادية الاجتماعية في سورية الطبيعية عصية على الإيقاف، رغم حشد الولايات المتحدة لقواتها في منطقة التنف بين العراق والشام وسيطرتها على معبر الوليد حيث يمر طريق دمشق بغداد السريع والمقطوع أمريكيا ورغم سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد)- التي يدعمها ويتحكم بها الأمريكيون – على معبر اليعربية في أقصى شمال شرق الكيان الشامي.

إضافة إلى الخطوات المبرمجة التي ينتهجها صانع القرار الدولي لمنع اكتمال الدورة الاقتصادية الاجتماعية بين كيانات الهلال الخصيب، نجد عاملا إقليميا خطيرا آخذا بالبروز بشكل متكامل مع هذه الخطوات، وهو التهديد التركي. إن تركيا تقتنص – على عادتها – فرصة الفوضى والتشتت التي تعانيها الكيانات السورية وتنتهج مجموعة سياسات تؤدي في مجملها إلى انزياح الأهمية الاستراتيجية للموقع السوري لصالح الموقع التركي، بدءا من خط السيل التركي الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا الجنوبية عبر تركيا وينتظر أن يكتمل في 2019، وصولا إلى افتتاح مطار اسطنبول، وهو اكبر مطار في العالم خلال الشهر الحالي، إضافة إلى اعتماد العراق – قبل وبعد فشل الاستفتاء الكردي على كركوك – على الأراضي التركية كممر لتصدير نفط كركوك. كما أن هناك دور يلعبه الأتراك في تلبية احتياجات الاقتصاد الإيراني المحاصر بشكل خانق على خلفية وقف الولايات المتحدة للعمل بالاتفاق النووي.

إن مجمل هذه العوامل تصب في خانة نقل الأهمية من الموقع الاستراتيجي السوري لصالح تركيا. وهي إذا ما أضيفت إلى التواجد العسكري الأمريكي على الحدود الشامية العراقية ودعمه لسيطرة فصيل كردي (قسد) على الجزء الشمالي من هذه الحدود، ودعمه ورعايته لبقاء داعش مسيطرا على جيب ضيق إلى جوار هذه الحدود شمال شرق الفرات، يكشف الأهمية والأدوات المتعددة التي تستعملها الولايات المتحدة لمنع اكتمال دورة الحياة الاقتصادية الاجتماعية السورية ويعيد التأكيد أن العلاقات بين الكيانين الشامي والعراقي هو عصب مهم في السياسة الإقليمية والدولية وهي خشبة الخلاص للكيانات السورية وعامل حاسم في منع إفقاد الموقع السوري أهميته لصالح تركيا.

__________________

* حسان يونس مواليد الكيان الشامي عام ١٩٧٩ . مهندس حائز على شهادة ماستر في الإدارة العامة. عضو مجلس إدارة جمعية عاديات طرطوس. نُشرت له عدة مقالات في العديد من المواقع الإلكترونية

 

 

0
0