كان من المتوقع أن يكون مؤتمر مراكش في العاشر والحادي عشر من هذا الشهر مؤتمرا مخصصا لإنهاء المشاورات حول ميثاق الأمم المتحدة للهجرة. وبالرغم من الإشادة الرسمية بنتائجه، لم تتورع الوسائل الإعلامية عن التهكم عليها كونها لم تف بالغرض المنشود خاصة وأن الإنقسامات التي شهدتها الدول والحكومات حول مضمون هذا الميثاق أفقدته من قيمته ومحتواه.
بدأت التناقضات تلف الميثاق عندما انسحب منه ترامب عام 2017 متذرعاً بأنه يمس سيادة الولايات المتحدة الأميركية، ومعتبرا أن الهجرة وقوانينها أمور قومية محض يجب ألاّ تدخل في مهام منظمة الأمم المتحدة. نمت هذه الفكرة وكبرت لتصل كما هي، دون تحريف، إلى الحكومات اليمينية في الدول الأوروبية الأعضاء
عند قراءة الميثاق يتبين أنه يعالج مسألة الهجرة من قبل المجموعة الدولية للوصول إلى حوكمة سليمة وتنسيق دولي. لكنه لم يذكر مرة واحدة التزام الدول الموقعة على الميثاق بقوانين أو شروط. لا بل يقدم آليات للمساعدة على معالجة موضوع الهجرة ضمن أطر حقوق الإنسان. فلذلك يعمل الميثاق على ضم دولة منشأ المهاجر ودولة عبوره ودولة استقباله في إطار رؤية واحدة قائمة على تعزيز التعاون الدولي. كما يهدف إلى محاربة المشاكل الهيكلية التي تدفع بالمواطن إلى الهجرة والعمل على تسهيل عودته لدياره واندماجه في مجتمعه.
ويعمل البند 17 من هذا الميثاق، من بين العديد من بنوده،على تعهد الدول إزالة كافة أنواع التمييز ومحاربة العنصرية على اختلاف أشكالها، احترام الخصائص الثقافية للمهاجرين وإيقاف تخصيص الدعم المادي لوسائل الإعلام التي تبث أفكارا سلبية كالعنصرية والكراهية وكافة أشكال التمييز الاجتماعي.
لقد كان الميثاق واضحا في التفرقة بين المهاجرين والمهجرين. فللمهجرين وضع ذو خصائص محددة تختلف تماما عن وضع المهاجرين. كما أعطى الميثاق الحق للدول في إدارة وتطبيق الميثاق كل حسب قوانينها واستنادا للعديد من المعايير الخاصة بها. فالميثاق لا ينص على فتح كافة الحدود بين الدول إنما يعمل أكثر على تفادي الأسباب التي تؤدي إلى الهجرة. وحسب مدير عام المنظمة الدولية للهجرة لقد أصبحت هذه الأخيرة كبش فداء للمشاكل الثقافية والاجتماعية نتيجة تلاعب بعض الأوساط السياسية والانحراف عن الهدف الأساسي للميثاق.
بالرغم من موافقة الدول على الميثاق في البداية (وافقت 191 دولة على فكرة إنشاء الميثاق في تموز 2018 في مدينة نيويورك) لم يكن الإجماع الشعبي لكل منها على مستوى القرار الحكومي. أوروبيا كانت المعارضة واضحة عبر عنها اليمين في كل دولة. (كان أولها بلغاريا تلتها النمسا ثم تبعها العديد من المفاوضات والمشاورات السياسية داخل دول أخرى مثل ألمانيا، استونيا، كرواتيا، هولندا سلوفينيا وبلجيكا). فاختلط الأمر لدى الأحزاب السياسية اليمينة بين الهجرة الآمنة والمهجرين نتيجة الحروب المرحلية، كما خلطوا بين رفضهم للأجنبي بشكل عام واستقبالهم للمهجرين والمهاجرين بشكل خاص حسب أصول وقوانين واضحة ومحددة.
العامل الأهم في الاعتراضات التي حصلت في الدول الأوروبية مؤخرا على تبني الميثاق هو عامل الوقت. والأسئلة التي يجب طرحها هي لماذا قامت التحركات الآن؟؟ وما هو الهدف منها؟ ولماذا تراجعت بعض الحكومات عن التوقيع؟ والجواب هو فقط الانتخابات الأوروبية القادمة وبعض انتخابات الدول الأعضاء للعام 2019.
إن عمل اليمين في الدول الأوروبية يقضي بالتحضير الجاد للانتخابات القادمة التي سيتحدد على ضوئها السياسة الأوروبية المستقبلية. هذه السياسة تعمل بشكل جاد إلى فض الاتحاد الأوروبي والرجوع إلى حالة الاستقلالية التامة من أي قيود وقوانين
أكبر أزمات دول الاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بالميثاق كانت وما زالت أزمة الحكومة البلجيكية. فبعد أن قامت هذه الحكومة بالتوقيع الأولي على الميثاق في تموز الماضي في نيويورك قام أعضاء حزب التحالف الفلاماني الجديد NVA بالإعلان عن عدم موافقتهم عليه بعد أن قاموا بدراسته عن كثب. والسبب حسب رأي أعضاء هذا الحزب هو أن الميثاق سيفرض عليهم استقبال العديد من الأجانب دون أن يكون للحكومة البلجيكية أي قرار قومي مناقض أو أي رفض.
وبالرغم من خروج حزب التحالف الفلاماني من حكومة أكثرية يرأسها الحزب الليبرالي وخلق أزمة حكومية جديدة، استطاع شارل ميشال رئيس الحكومة الفدرالية البلجيكية أن يتوجه إلى مراكش وأن يوقع على الميثاق باسم البرلمان وليس باسم الحكومة. كما لم تمنع هذه الأزمة التي عملت منذ على تهديد الحكومة البلجيكية بالانهيار، لم تمنع رئيسة اليمين الفرنسي مارين لوبان وستيف بانون الأميركي المتواجد في بلجيكا من زيارة حزب التحالف الفلاماني الجديد وإلقاء اللوم عليه لعدم نجاحه في مبتغاه أي عدم السماح لرئيس الحكومة بالتوقيع. وجاء التوبيخ واضحا بأن حزب التحالف الفلاماني الجديد لم يقم بعمل جيد ولم يكن مقنعا في حملته الإعلامية
وما زال الحزب اليمين المتطرف البلجيكي مستمرا في حملته تحضيرا للانتخابات المقبلة لعام 2019 إن كان أوروبيا أو بلجيكيا، إلى أن وصل الأمر أن أجبر رئيس الحكومة شارل ميشال على تقديم استقالته للملك غير آبه بالخلل الذي قد يشكله هذا الأمر قبل خمسة أشهر من الانتخابات القادمة. إن النجاح الأولي الذي حققه حزب التحالف الفلاماني الجديد يشكل تهديدا على الصعيد البلجيكي لأنه بفعله هذا سيلتف حوله العديد من الناخبين اليمينيين خلال الانتخابات المقبلة، كما سيضمن تحالفه مع حزب يميني أكثر تطرفا Vlaams Belang (الذي يعمل على استقلال المنطقة الفلامانية) سرق منه أصواتا كثيرة إبان الانتخابات البلدية متهما إياه بليونة مواقفه، وأخيرا إمكانية تشكيل حكومة بمفرده.
أما الخوف الأكبر فهو احتمال تمثل أحزاب يمينية في حكومات أوروبية اخرى بالحزب البلجيكي فتصبح كذلك قادرة على عملية الخرق التام والتفرد بالتشكيل الحكومي وبالتالي تغير التوجه السياسي العام.
أن يقوم ترامب باللعب على كافة الجبهات أمر غير مستبعد. أن يتلاعب في الدول الكبيرة والصغيرة على السواء امر يسهل عليه وقد غرس نواة صالحة في العاصمة الأوروبية تمول وتقود وتعبئ. وأن تتزامن التظاهرات المعادية لميثاق الأمم المتحدة مع تظاهرات السترات الصفراء في العديد من الدول الأوروبية أمر طبيعي إذا استندنا إلى الهدف الأميركي من الاتحاد الأوروبي. وأن تتوافق المطالب الشعبية المحقة والداعية لكرامة العيش مع مطالب عنصرية ومنافية لحقوق الإنسان أمر أكثر من طبيعي لأن الهدف منه ليس المواطن إنما الشغب والعمل على إسقاط الحكومات. وأن تتبنى هذه الحركات الشعبية أحزاب اختلفت عائلاتها الفكرية من دولة إلى أخرى أمر مفروض لأن الأمر يتعلق بصراع بين توجهين: إما بقاء الاتحاد الأوروبي أو انهياره.
لا يسعنا عند تحليل كافة تطورات الأحداث الأوروبية وآليات التدخل الأميركي في معظم الدول الأوروبية الأعضاء إلا أن نتساءل إذا كان الاتحاد الأوروبي قد أثبت فاعليته منذ قيامه حتى يومنا هذا وإذا كانت دوله الأعضاء قد أوفت بشروط وجوده واستوفتها. إن المشكلة التي يتخبط بها المواطن الأوروبي هي عدم رؤيته الواضحة لاسباب انحدار مستوى معيشته. أسباب يعمل اليمين على أن يتهم بها الأجنبي بدلا من أن يشير إلى السياسات الاقتصادية الليبرالية التي تعمل لصالح المؤسسات المالية الدولية الكبيرة دون الأخذ بعين الاعتبار صالح المواطن. فأصحاب السياسات الاقتصادية القائمة على الربح وعلى الاحتفاظ به على حساب المواطن هم أنفسهم الذين يعملون على تغذية الاستياء الشعبي من هذه السياسات. والنتيجة ستكون لصالحهم مهما تغيرت أو تبدلت وسيكون الخاسر الأوحد المواطن إينما وجد.