مجلة الفينيق ترحب بضيف عدد شهر كانون الثاني (يناير) 2018 المطران مارون لحّام في مداخلته حول “المسيحية الصهيونية كفكر تكفيري”، كما ترحّب بآراء القرّاء حول مضمون المقالة
الفكر التكفيري في الدين، في أي دين، يقود حتماً إلى العنف. وقد عاشت معظم الديانات هذه الفترة من التفكير المكفّر. والعنف يظهر في أكثر من وجه: أولاً الذبح بالنسبة لبعض الأديان ومنها الهندوسية، ثم فرض الدين على جماعة مختلفة في المعتقد. والتاريخ مليء بأمثال هذا العنف عند أكثر من دين. ثم العصبية الدينية، أعني إدعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وإنكار أي شعاع منها لدى الآخرين. أخيراً التعالي على الآخر المختلف دينياً من منطلق أننا “شعب الله المختار”، أو أننا “خير أمة أُخرجت إلى الناس”، أو أننا “ملح الأرض ونور العالم”. هذا عن الأديان.
بيد أن هذا الفكر التكفيري يوجد أيضاً في المجال السياسي والتاريخي والثقافي. فاستعباد البشر في أفريقيا في حقبة الاستعمار فكر تكفيري، والاستعمار نفسُه فكرٌ تكفيري، والقضاء على شعوب بأكملها بتاريخها وثقافتها في الأمريكيتين عند اكتشافهما فكر تكفيري. وفي الوقت الحالي، وليس بعيداً عنا، قطع الرؤوس والتهجير القصري والخيار بين تغيير الدين أو الجزية أو مغادرة أرض الوطن، فكر تكفيري بامتياز.
1 ـ المسيحية الصهيونية: عرض سريع لنشأتها ولأهم عقائدها
أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن المسيحية الصهيونية وليدة الأحداث الأخيرة، لا سيما منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948. لا شك أن عام 1948 أحدث تغييراً نوعياً في مواقف المسيحية الصهيونية وفي نشاطاتها، لا سيما في فلسطين، لكن جذورها تعود إلى أبعد من ذلك بكثير.
المبدأ الديني العام الذي عليه تقوم المسيحية الصهيونية هو ما يلي: “سيعود المسيح مرة ثانية، ولهذه العودة شروط لا بدّ من توافرها. فالمسيح لن يعود إلا إلى مجتمع يهودي، ولن يظهر إلا في صهيون (القدس)، لذلك لا بدّ من تجميع اليهود في فلسطين حتى يظهر المسيح بينهم، وهكذا نعجّل في نهاية العالم”.
هذا المبدأ (عودة المسيح ثانية – مع ما يرافقه – المسيح الدجال، حكم الألف سنة، معركة هرمجدّون النهائية…) كان من الأمور التي شغلت بال المفكّرين المسيحيين منذ القرون الأولى (العقيدة التدبيرية)، وله أيضاً بعض التلميحات في العقيدة الإسلامية (عودة المسيح للدينونة). وإن عدنا إلى جذور المسيحية، نرى أن يسوع المسيح وبولس الرسول كانا يقاومان النزعات الرامية إلى التهويد والتعصّب المتطرّف. كما ساد في القرن الثاني الميلادي جدلٌ في الكنيسة (الهرطقة المونتانية، عام 170- 190) يسير في نفس الخط الانتقائي تحسّباً لمجيء المسيح القريب. وكان ترتيليانوس من المؤمنين بهذا الخط من التفكير، أقلّه في نهاية حياته. لكن معظم أساقفة الكنيسة في القرون الأولى رفضوا هذا التفكير واعتبروه هرطقة، وأدانوه (200م).
عاد نمط التفكير هذا إلى الظهور في القرون الوسطى عند بعض المفكّرين اليهود، ونما بعد طرد اليهود من إسبانيا (1492). وكان بعض هؤلاء المفكّرين قريبين من واضعي التفكير الكتابي زمن الإصلاح، بحيث ساهموا في التشديد على أهمية دراسة العهد القديم من الكتاب المقدس.
ثم أتت حركة الإصلاح، وتبنّت مبدأ الكتاب المقدس كمرجع أساسي ووحيد في الإيمان والعمل المسيحي Sola Scriptura. وفي غمرة هذا الترويج للتفسيرات الكتابية واللامركزية في الكنيسة، دخلت ضلالات وكأنها تعاليم مسيحية مقبولة. كانت بريطانيا من أكثر الداعين إلى التفسير الحرفي للكتاب المقدس، واعتبرت نفسها في فترة ما “إسرائيل الجديدة”. وفي سنة 1615 ناشد أحد أعضاء البرلمان البريطاني الحكومة دعم فكرة اليهود إلى فلسطين. نحن هنا قبل وعد بلفور بثلاثة قرون. وخلال هذه القرون الثلاثة، تطورت الفكرة عند القُسس في بريطانيا، إلى أن صدر الوعد المشهور عام 1917، ويقال أن اللورد بلفور كان مسيحياً صهيونياً.
ساد نفس الخط في أميركا، لا سيما في القرن الثامن عشر وما تبعه. وكان التركيز على أمرين: مجيء السيد المسيح الثاني والاهتداء الشخصي. ونحن نعلم أن هاجس مجيء المسيح الثاني سكن الكثيرين من مسيحيي أميركا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وطالما سمعنا عن مؤمنين باعوا ممتلكاتهم وجلسوا ينتظرون عودة المسيح اعتماداً على حسابات مأخوذة من أرقام وردت في العهد القديم أو سفر الرؤيا.
لم تشكّل المسيحية الصهيونية حركة أو نظاماً لاهوتياً واضح المعالم حتى النصف الثاني من القرن العشرين. بيد أن قيام دولة إسرائيل عام 1948 كان بالنسبة لمعظم الإنجيليين الأصوليين بمثابة تأكيد على صحة نظرية “ما قبل الألفية” وعلى قُرب عودة المسيح الثانية. وكانت حرب 1967 وما تبعها من استيلاء إسرائيل على القدس دليلاً آخر على اقتراب الأزمنة الأخيرة. فقد كتب أحدهم: “لأول مرة منذ أكثر من ألفي عام تصبح أورشليم بأكملها تحت سيطرة اليهود، مما يسبّب لدارس الكتاب المقدس نشوة وإيماناً متجدّداً بدقة وصحة هذا الكتاب”.
ثم تتابعت الأحداث، فترأس الليكود حكومةَ إسرائيل (1977) بناء على برنامج سياسي صهيوني استُغلّت فيه أفكار توراتية. وانتُخب جيمي كارتر (1976) واعتمد في انتخابه على الأصوات الإنجيلية والأصولية. وفي الثمانينات انتُخب رونالد ريغان رئيساً، وكان بعض وزرائه يؤمنون بفكرة ما قبل الألفية.
ثم كان افتتاح “السفارة المسيحية الدولية” في القدس في 30/9/1980، والتي قدّمت نفسها على أنها مؤسّسة مسيحية صهيونية ولها رؤية عالمية فيما يتعلّق بتطور عقيدة ما قبل الألفية. وتعتمد “السفارة المسيحية الدولية” على طريقة مسيحية أصولية لفهم الكتاب المقدس، وترى في إسرائيل تحقيقاً لنبوّة كتابية وعودة شعب الله المختار إلى أرض الميعاد. أما اهتماماتها، فقد حدّدتها السفارة نفسها في النقاط التالية:
ـ الإهتمام بالشعب اليهودي وخاصة بدولة إسرائيل.
ـ حق إسرائيل في العيش بأمن وسلام.
ـ الإهتمام بالقدس من جميع نواحيها لتصبح درّة في عين الدنيا وبشرى بعهد جديد للبشرية جمعاء.
ـ ربط كنيسة المسيح المنتشرة في أنحاء العالم بإسرائيل ربطاً حقيقياً.
ـ الإهتمام بمجيء الرب والإعداد له.
من الواضح أن تعاوناً استراتيجياً تأسّس بين “السفارة” والقيادة السياسية الإسرائيلية لا مجال هنا لذكر معالمه. وفي سنة 1985 نظّمت “السفارة” المؤتمر المسيحي الصهيوني الأول في مدينة بازل في سويسرا، في نفس القاعة التي عقد فيها ثيودور هرتسل المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897. أمّا المؤتمر العالمي الثاني، فقد عُقد في القدس عام 1988 في الذكرى الأربعين لتأسيس دولة إسرائيل. وفي أحد أعياد المظالّ اليهودية، جمعت هذه “السفارة” أكثر من 6000 مسيحي من أكثر من 100 دولة تحقيقاً لنبوءة زكريا (14، 16): “ويكون أن كل الذين أُبقيَ عليهم من جميع الأمم القادمين على أورشليم يصعدون سنة بعد سنة ليسجدوا للملك رب الجنود وليعيّدوا عيد المظالّ”. وقد خطب فيهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي كان قد أُعيد انتخابه قبل فترة. وقد قال مسؤول “السفارة” مشيراً إلى إعادة انتخاب نتنياهو: “إن كان هنالك برهان على وجود الله في السماء فهو نتيجة الانتخابات الأخيرة”. وقد أجاب رئيس الوزراء على هذا الخطاب الترحيبي الحار قائلاً للمجتمعين: “أنتم سفراء الحقيقة”.
بعد هذا السرد التاريخي السريع، في ما يلي سردٌ آخر سريع لأهم ملامح “العقيدة” التي تنادي بها المسيحية الصهيونية. وهنا يجب القول أن عقيدة المسيحية الصهيونية هي أساساً عقيدة دينية، وما الوجه السياسي، ولو أنه قويّ وبارز، لهذه الحركة إلاّ من تبعات العقيدة الدينية المذكورة.
العقيدة الدينية
ـ تؤمن المسيحية الصهيونية بحتمية رجوع المسيح الثاني، وبحكمه الأرض مدة ألف سنة. وهنالك فترة تُدعى ما قبل الألفية، تقوم على تهيئة الجو لمجيء المسيح. وتهيئة الجو تعني إعادة جميع اليهود إلى فلسطين، لأن المسيح سيعود في القدس وسيظهر للشعب اليهودي.
ـ تؤكّد على القراءة الحرفية للكتاب المقدس، وعلى أن ما يقوله الكتاب المقدس يجب أن يطبقه المؤمن حرفياً بالتمام والكمال، مع الإيمان أن ما جاء في الكتاب المقدس هو ما يحدث بجميع تفاصيله في التاريخ، أو ما سيحدث في المستقبل.
ـ تطلب من المسيحيين الذين يحبّون الكتاب المقدس أن ينظروا إلى العهد القديم على أنه التاريخ الوحيد الصحيح لمنطقة الشرق الأوسط.
ـ لا يمكن القضاء على اللآسامية في العالم إلا بإقامة دولة لليهود، ولليهود فقط، في فلسطين. ومن هذا المنطلق، أن يكون الإنسان مسيحياً يعني حتماً دعم وجود دولة إسرائيل ودعم سياستها. وهذا الدعم المطلوب له سببان: الأول ـ الأمانة لمخطط الله ولإرادته كما وردت في الكتب المقدسة. يقول جيري فارويل “كلّ من يؤمن حقاً بالكتاب المقدس يرى أن الإيمان المسيحي ودولة إسرائيل أمران لا ينفصلان”. ثانياً ـ دعم إسرائيل من شأنه أن يعجّل مجيء المسيح الثاني.
أساس العقيدة المسيحية الصهيونية مبنيٌّ إذاً على عودة المسيح. وما التركيز على مركزية الشعب اليهودي والاهتمام بعودته إلى فلسطين، إلا وسيلة ضرورية للوصول إلى هدف عودة المسيح وحكمه الألفيّ. وبعد ذلك لا يبقى لليهود إلاّ خيارين: الإيمان بالمسيح أو الموت.
لهذه العقيدة المتشدّدة والحرفية تبعات سياسية تخص الأرض والشعب والعلاقة بين الشعب والأرض. وهذه التبعات هي التي تظهر على السطح الآن وتشكّل الوجه الخارجي للمسيحية الصهيونية. من هذه التبعات:
ـ تؤمن المسيحية الصهيونية أن الله دعاها “لدعم ومساندة إسرائيل دون قيد أو شرط”. إن كلّ مَن يؤمن إيماناً حقيقياً بالكتاب المقدس يستطيع أن يرى الارتباط الذي لا يمكن فصمُ عراه بين المسيحية ودولة إسرائيل الحديثة. كما أن إعادة تكوين دولة إسرائيل عام 1948 هي بالنسبة لكل مسيحي مؤمن بالكتاب المقدس “تحقيقٌ لنبوءة وردت في كل من العهدين القديم والجديد”.
ـ تناشد الشعوب والدول بإنشاء سفاراتها في القدس، للتأكيد على الرابطة القديمة بين الشعب اليهودي الخالد وبين مدينته التي منحه الله إياها، واعتبار منطقتي يهوذا والسامرة جزءاً من أرض إسرائيل.
ـ تؤمن أن الله أحبّ شعبه وأنه أناط به مسؤولية وحق امتلاك أرض الميعاد وإعمارها، بل وحكم سكانها بموجب كلمته الإلهية.
وفي ختام الكلام عن التبعات السياسية لهذه العقيدة، وتغلغلها في السياسة الأميركية في المنطقة، يكفي أن نذكر بعض التعابير المشتركة بين المسيحية الصهيونية وخطابات الرؤساء الأميركان في نهاية القرن العشرين. من هذه التعابير: محور الشر (في العقيدة المسيحية الصهيونية محور الشر هو كل من هم ضد إسرائيل)، والعدالة المطلقة (في العقيدة المسيحية الصهيونية العدالة المطلقة ستتحقق فقط بعودة المسيح الثانية). يقول محمّد السمّاك إن مسؤولاً من المسيحية الصهيونية كان يحضر اجتماعات مجلس الأمن القومي الأميركي حتى يضمن أن القرارات التي تصدر متوافقة مع معتقدات المسيحية الصهيونية.
2 ـ موقف الكنائس المسيحية العام من المسيحية الصهيونية
لا تستطيع الكنائس المسيحية أن لا تأخذ موقفاً واضحاً من المسيحية الصهيونية. فالأمر يختص بعقائد مسيحية تتّفق عليها جميع الكنائس المسيحية الرسمية، بغض النظر عن التبعات السياسية التي تكلمنا عنها. فجميع الكنائس المسيحية (أي العائلات الثلاث الكبيرة: الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية) لها مواقف واحدة من مبدأ عودة المسيح الثانية في نهاية الأزمنة، ومن التفسير الحرفي للكتاب المقدس ومن العلاقة الجوهرية التي تجمع بين العهد القديم والجديد، وإن وُجدت بعض التفاصيل الُمختلف عليها في النقطة الأخيرة.
من هنا أتت مواقف جميع الكنائس متّفقة فيما بينها على رفض العقيدة المسيحية الصهيونية، وعلى عدم الاعتراف بهذه الجماعة ككنيسة أو حتى كتجمع كنسي. وفي ما يلي بعض المواقف الرسمية:
ـ يقول مجلس كنائس الشرق الأوسط (عام 1985): “إننا ندين استغلال التوراة واستثمار المشاعر الدينيّة في محاولة لإضفاء صبغة قدسية على إنشاء إسرائيل ولدمغ سياستها بدمغة شرعية. إن المسيحيين الصهاينة لا يعترفون لكنائس الشرق الأوسط بتاريخها وبشهادتها وبرسالتها الخاصة، ويحاولون زرع رؤية لاهوتية غريبة عن ثقافتنا”.
ـ “نحن لا نوافق على ما تقوم به هذه الجماعة. نحن نقول إن هنالك دعماً مسيحياً لهذه الصهيونية، المبنية على هذا الأساس اللاهوتي. ونحن طبعاً ضد هذه المعتقدات، خاصة وأنها تقسم التاريخ إلى سبع حقبات تاريخية، وتفترض أن هنالك فصلاً بين إسرائيل التي تعتبره الشعب اليهودي وبين الكنيسة التي هي شعب الله في السماء، وتسعى إلى تفسير الكتاب المقدس تفسيراً حرفياً. هذه الجماعة تؤمن أن الأرض ملك الشعب اليهودي إلى الأبد، وأن النبوءات المتعلّقة برجوع اليهود من الشتات الآن قد تحقّقت ثانيةً. لذلك تريد أن تأتي إلى معركة هرمجدون… من هذا المنطلق نحن نسعى… إلى مواجهة هذه المجموعات”. (د. رياض جرجوعي، الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط).
ـ إن مجلس الكنائس الوطني الأميركي ومجلس الكنائس المسيحي في أميركا في نيويورك، مع مجلس الكنائس العالمي في جنيف ندّدت بتصريحات جيري فولويل وبات روبرتسون، وهما من أشهر ممثلي المسيحية الصهيونية. ثم أن الكنائس الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية والكنائس الإنجيلية الموجودة في الولايات المتحدة لا تتعامل مع المسيحية الصهيونية وتقاطِعُها.
ـ “الكنيسة المشيخية في أميركا (والتي هي من الكنائس الإنجيلية التي انسلخت المسيحية الصهيونية عن أحد فروعها) ترفض تفكير المسيحية الصهيونية رفضاً كاملاً في قيادتها وفي شعبها. وقد خاطبنا هذه الكنائس التي تستمع إلى جيري فولويل وإلى أمثاله، وقلنا لهم إننا لا نستقبل قياداتهم أو زوّارهم إن أتوا إلى بلادنا… ليس هذا الفكر منا، بل هو دخيل علينا”.
3 ـ موقف الكنيسة الفلسطينية من المسيحية الصهيونية
هنا بيت القصيد. فالكنيسة الفلسطينية لها كلمتها ككنيسة لأن الأمر يختص بالعقيدة، وكفلسطينية لأن معظم التبعات السياسية تهمّ أرض فلسطين ولها انعكاسات دينية ووطنية وسياسية على الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
الموقف الأكبر والشامل هو البيان الذي أصدره رؤساء الكنائس المسيحية في القدس: “إن الهيئة التي تدعو نفسها “السفارة المسيحية الدولية” لا تمثّل كنائسنا في هذه البلاد، كما أنها لا تستطيع أن تمثّل غالبية المؤمنين في العالم. إننا لا نعترف بهذه السفارة ولا بنشاطاتها ولا بمؤتمراتها. وبما أن تعاليم السيد المسيح وهدى الإنجيل ونوره انطلقت من هذه الديار نفسها حيث نمثّل نحن ديانتنا المقدسة وحيث نجتهد في تكريم المقدّسات والمحافظة عليها، فإننا لسنا بحاجة إلى أناس يأتوننا من الخارج ليتحدّثوا أو يتصرّفوا باسمنا، خصوصاً وأنهم غير واعين لواقعنا. كما نرفض رفضاً باتاً أيّ تفسير سياسي للكتب المقدّسة”.
كما عبّر الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط عن موقف مماثل في رسالة وجّهها إلى الكنائس بتاريخ 7/3/1988. جاء في الرسالة: “في الشرق الأوسط حيث يلعب الدين دوراً هاماً ومتنامياً في تحديد العلاقات المستقبلية بين الشعوب والدول، لا يوجد أي مجال لأيديولوجيات مسيحية صهيونية متحيّزة وتشكّل تشويها خطيراً للإيمان المسيحي، بل يتوجّب على المسيحيين في جميع أنحاء العالم رفض كافة أفكار التفوّق لشعب معّين على غيره من الشعوب ضمن خليقة الله”.
وفي مقابلة قناة الجزيرة “بلا حدود” في كانون أول 2002، قال المطران عطا الله حنا فيما يمكن اعتباره موقفًا مسيحيًا محليًا عامًا: “نحن في كنيستنا الأرثوذكسية وبشكل عام في الكنيسة المشرقية، لا نعترف بشيء اسمه الكنيسة المسيحية الصهيونية، ذلك لأن هنالك تناقضًا كبيرًا بين ما تعلّمنا إيّاه المسيحية من قيم روحية وإنسانية، وما تقوله الصهيونية من احتلال وممارسات على الأرض. نحن نعتقد أن هذه الجماعات أدوات مسخّرة في خدمة المشروع الصهيوني لاختراق المسيحية ولإبرازها وكأنها حليف للصهيونية… ونحن نؤكد أن ما تدّعيه هذه الجماعات من تبريرات ومن دعم للصهيونية لا علاقة له بالمسيحية ولا بالإنجيل ولا بالكتاب المقدس. لم تنجح المسيحية الصهيونية في اختراق الكنيسة في فلسطين لأن هنالك موقف واضح من الكنائس الأرثوذكسية ومن الكنائس الكاثوليكية ومن الكنائس العربية”.
هذا على مستوى المواقف والتصريحات. بيد أن الموقف الأهم هو الموقف الفكري الذي يعالج الشرّ من أصله، أي الموقف الذي يفنّد الزعم بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس والحق السياسي على الأرض باسم الدين. وهنا يجب تثبيت المبدأ النظري أوّلا قبل الوصول الى التطبيق.
يقول المبدأ النظري في تحديد أية عقيدة او موقف لاهوتي بالمعنى الصحيح أن التفكير اللاهوتي يجب أن يدور، من ألفه الى يائه، في فلك حرّ بحرية الروح القدس. هذا يعني أن أي موقف لاهوتي مرفوض مبدئياً، إن كان هذا المبدأ متأثراً في تكوينه برواسب نفسيّة أو تاريخية أو سياسية أو أيديولوجية أو شخصية، ماضية كانت أم حاضرة أم مستقبلية. وبما أن حركة المسيحية الصهيونية وُلدت في الغرب، فالخلل القاتل هو أن هذا التفكير سجين عقل باطني متأثر بأحداث معينة في الماضي البعيد والقريب.
ومن مكونات هذا العقل الباطني الغربي هو أن اسرائيل دولة خاصة لشعب خاص في تاريخ خاص وعلى أرض خاصة. واللاهوت المؤسَّس على هذه المسلّمات يصل حتما الى القول ان دولة اسرائيل تنبأت بها كلمة الله في الكتاب المقدس، وأن هذه الدولة هي تعبير عن إرادة الله، وما على غير اليهود المتواجدين في الأرض سوى القبول بالأمر الواقع أو والنزوح. من هنا نقول أنه عندما يبرّر أيُّ لاهوت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مشروعاً سياسياً أو أيديولوجية سياسية، يمكن ان ننتظر الكوارث.
ونأتي الى التطبيق، وهو واضحٌ وضوح الشمس. أستلهمُ هذه الفقرة من مداخلتي من رسالة البطريرك ميشيل الصباح “قراءة الكتاب المقدس اليوم في أرض الكتاب المقدس” (تشرين ثاني 1993). فيما يلي أهم نقاط الرسالة التي تتناول عقيدة المسيحية الصهيونية حول تفسير الكتاب المقدس والحق في امتلاك الأرض والعلاقة بين العقيدة الدينية والحق السياسي.
تفسير كلمة الله
ـ من أراد أن يكون أميناً لإيمانه ولكلمة الله، يجب أن يحرّر نفسه من جميع الضغوط الواعية واللاواعية الناجمة عن الانتماءات الحضارية وعن المواقف السياسية الراهنة.
ـ كلمة الله يجب ان تكون النورَ والدليل ولا يجوز أن تكون أداة صراع مع أو على أي من الطرفين.
ـ لا يجوز أن تكون كلمة الله أداة صراع إلاّ في سبيل الحقيقة.
ـ لا يجوز إخضاع الكتاب المقدس للاستغلال السياسي وإهمال جوهر رسالته الدينية.
ـ لا يمكن تبرير أي صراع بالكتاب المقدس (رقم 46).
الأرض
ـ الأرض مُلك الله (الأحبار 25،23) وإسرائيل هو نزيل الله في الأرض. وعلى الشعب أن يكون أميناً على الأرض والاّ فإن الأرض “تلفظ ساكنيها” (أحبار 18،25). وبالإضافة إلى ذلك، فتملّك الأرض ليس أمراً منطقياً، والدليل على ذلك هو أننا نجد في التوراة نظاماً خاصاً يحدّد الملكية على الأرض. فكل خمسين سنة يعاد توزيع الأرض ويُحرّر العبيد، وذلك للإقرار أن الله هو سيّد الجميع والمالك الحقيقي للأرض (أحبار 25 ، 1و13).
ـ مع كل عهد ومع كل مرحلة جديدة من تاريخ الشعب اليهودي كان المعنى الروحي والشمولي للعهد والمواعيد، بما فيها الأرض، يّتضح أكثر فأكثر. فالأبرار يرثون الأرض (مزمور 37 ،29). ونفس الأمر كرّره المسيح في التطويبات “طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض” (متى 5 ،4). وهكذا فإن سيطرة الودعاء على الأرض تكتمل بصورة أورشليم السماوية (رؤيا 3، 12 و21، 2). وبذلك تصبح أورشليم الأرضية الصورة والرمز لأرض الميعاد التي هي وطننا السماوي عند الله. وهكذا لا تُعد أورشليم بعد أرضاً أو تُراثاً أرضياً فحسب، بل هي أيضاً، وبصورة خاصة، تراث روحي للإنسانية الساعية إلى الخلاص.
مختصر القول: تطوّرَ مفهوم الأرض في مختلف مراحل الوحي، ابتداءً بالمعنى المادي والجغرافي والسياسي وانتهاءً بالمعنى الروحي والرمزي، ولم تعُد عبادة الله مقيّدة بأرض. ليس هناك أرض محدّدة للعبادة وليست الأرض القيمة الأولى والمُطلقة. انما الأول هو الله تعالى وعبادته (يوحنا 4).
الحق السياسي والعقيدة الدينية
ـ لا شك أن للدين اليهودي علاقة تربطه بأرض فلسطين. كما لا شك أن نفس الأمر يقال عن الدين المسيحي وعن الإسلام. فإذا ما ادّعت إحدى الديانات الثلاث حقاً لها سياسياً على الأرض باسم الدين نفسه، حقّ للديانتين الأخريين أن تدّعيا الادعاء نفسه وللسبب نفسه.
ـ حق الديانات الثلاث على أرض فلسطين مشروع للجميع، ويقوم على العيش على هذه الأرض أو التوجه إليها لأداء واجب العبادة فيها. وأما الحق السياسي فيها لأي دين من الأديان الثلاثة أو لأي مؤمن من مؤمنيها، فهو متوقف على العمل السياسي، وهذا العمل يحكمه القانون الدولي لا الكتب السماوية. (22)
ـ إن كانت السلطة السياسية تريد أن تجعل من الله ومن كتابه مرجعاً لها فيما يختص بهبة الأرض، فهذا يعني أنه يجب أن تهتدي في الصراع الجاري بالمبادئ الأخلاقية التي يتضمنها الكتاب المقدس، وهي المبادئ المستوحاة من عدل الله وصلاحه تجاه الجميع، وهو الذي لا يرضى أن يعبّر عن حبّه لشعب ما بظُلم شعب آخر (نفسه).
تبقى بعض النقاط العملية والحياتية التي يجب على مسيحيي الأرض المقدسة أن يعيشوها كي يقفوا سداً منيعاً أمام خطر المسيحية الصهيونية. وقد عرض الأب دافيد نويهاوس في محاضرة له عن المسيحية الصهيونية بعض هذه النقاط:
وحدة المسيحيين: على جميع المسيحيين أن يتّحدوا في الهوية العربية المسيحية من منطلق تجذرهم في الأرض، والحياة المسيحية بحسب القيم الإنجيلية وشهادة الحياة من خلال قيم العدل والسلام والمغفرة والمصالحة. وحدة المسيحيين تفضح الوجه المظلم للمسيحية الصهيونية.
التعمق في قراءة الكتاب المقدس والتأمل فيه. يجب على جميع مسيحيي الأرض المقدسة قراءة الكتاب المقدس بأكمله والوقوف على العلاقة الجوهرية بين العهد القديم والعهد الجديد، بالرغم من بعض التحفظات عند البعض من منطلق غير منطلق الإيمان. هذه الدراسة العلمية من المفروض أن تُضفي إلى الوقوف على مخطط الله الخلاصي الذي بدأه في كتب العهد القديم وأكلمه في العهد الجديد.
الحوار مع المسلمين: الحوار مع المسلمين في الأرض المقدّسة قديم قِدَم التاريخ، ويجب أن يتم انطلاقاً من معرفة المسلم لنفسه لا من منطلق ما يقوله آباء الكنيسة أو الآباء المدافعون عنه. يجب تجنب مواقف المسيحية الصهيونية التي تنطلق من مبدأ ساذج هو منطق الأبيض والأسود في موقفها من الإسلام ومن المسلمين.
الحوار مع اليهود: هنا أيضاً، يجب التعالي على بعض الحساسيات السياسية والعمل على حوار إيجابي ومتفهّم مع الديانة اليهودية. ومن النتائج المرجوّة من هذا الحوار العمل معاً على إحلال العدل والسلام والمصالحة بين الأطراف المتنازعة منذ عشرات السنين. وهذا الحوار من شأنه أن يفضح، مرة أخرى، موقف المسيحية الصهيونية التي تحكم على المسيحي والمسلم واليهودي في الأرض المقدسة بالعنف والظلمة والموت.
إعلان الملكوت: وهو واجب كل مسيحي في الأرض المقدسة. إعلان ملكوت الله كما عبّر عنه السيد المسيح في العظة على الجبل وأتمّه على الصليب، “فإذا اتحدنا به في موته فسنتحد به أيضاً في قيامته” (روما، 6،5).
خاتمة
موقف الكنيسة الفلسطينية الرافض للمسيحية الصهيونية ليس مبنيّاً على العاطفة أو على مواقف سياسية من الصراع الدائر في المنطقة، بل هو قبل أي اعتبار آخر موقف إيماني ولاهوتي محض. إيماني لأن عقيدة المسيحية الصهيونية تحرّف عقائد إيمانية لا يحق التلاعب بها (نهاية العالم، مجيء المسيح الثاني، صلاح الله ومحبته للجميع…) ولاهوتي (شمولية تاريخ الخلاص، دور يسوع المسيح في تاريخ الخلاص، العلاقة بين العقيدة والأرض، تطوّر فكرة الشعب المختار…).
إن كان لا يجوز التلاعب بعقول البشر في الأمور الأرضية، احتراماً لقدسية الحقيقة ولكرامة البشر، فبالأحرى لا يمكن التلاعب بمشاعر البشر الإيمانية، احتراماً لقدسية الإيمان ولأهميته في حياة المؤمن، واحتراماً لله نفسه الذي هجم الحاجز بين البشر بتجسد ابنه (أفسس 2، 14). بحيث لم يعُد هناك “يهودي أو يونانيّ، عبدٌ أو حر، ذكر أو انثى، لأنكم جميعكم في المسيح يسوع” (غلاطية 3، 27).
0 Comment
بحث مهم جداً يجب تعميمه