واجهت الإمبراطورية الأولى في سوريا القديمة الدولة الأكدية (2350-2230 ق.م) موجة مدمرة من أقوام بدوية قادمة من الشمال الشرقي، وتتحدث نصوص ذلك العصر عن مقدار الدمار الذي كانت تخلفه في أثناء تقدمها مما جعل صيتها كقوة شيطانية من غضب الآلهة ينتشر في أرجاء الإمبراطورية.
نجد في النص المسماري، أنّ الملك نارام سين، بعد أن يعدد المدن التي دمروها وأسماء ملوكهم، يقول: (فدعوت الضابط وأعطيته الأوامر: استخدم ضدهم السيف والحربة، وإذا جرى دمهم فيكونون بشراً مثلنا، وإذا لم يجري دمهم فيكونون من ملائكة الموت أبالسة وشياطين أثارهم الإله أنليل. ولما عاد الضابط قال في تقريره: لقد ضربت بالسيف وطعنتهم بالحربة فسال دمهم.)*
كان هذه المسافة الصفر الأولى في المشرق كدولة قوية عاشت لمدة 120 عاماً. فالضباط أعطى أمره للجنود الذين تغلبوا على المخاوف والخرافات التي رافقت تقدم هذه القوى البربرية في الإمبراطورية وتأكدوا بأنفسهم بالالتحام مع العدو أنه بشري ويموت. سجل لنا أجدادنا هذه الصفر المعنوي والحرب وقتها كانت عادلة إذا جاز لنا الوصف، فالجندي يقابله جندي، والخطة والمعلومات والمعنويات لها الدور في الهزيمة والنصر. كان تطور مواد صناعة الأسلحة من النحاس إلى الحديد وتغير أساليب حركة الجنود على الأرض في تلك العصور يعطي المعركة زخماً جديداً إلا أن معطياتها في المواجهة استمرت لمصلحة الجندي الذي يواجه الجندي، بل إن أكثر أشكال الإبادة ارتبطت بمقدرة الجندي على استمرار سيفه في فعل القتل بجنود وسكان المدن المعادية، وهي قوة محدودة مهما بلغت من الطاقة.
أنهت الحروب النارية في التاريخ الحديث الجانب العادل للحرب القديمة في حياة الأمم، فأصبح القتل والتدمير يمارس تمهيداً من مسافات لا تقوى الشعوب المغلوبة على أمرها على اجتيازها للردّ. وكان هذا حال المشرق العربي في تاريخه الحديث ومجتمعاته التي تستسلم لكل قادم جديد إلى كيانها من عثماني وفرنسي وإنكليزي. بقي أمام هذه المجتمعات المقهورة على أمرها ممارسة المسافة صفر والالتحام مع عدو يفوقها قوة ومقدرة، وكان هذا الالتحام الانتحاري يجري بدون السؤال عن مقدار أهميته وجدواه، ونظر إليه اجتماعياً كفعل بطولة واستشهاد بغض النظر عن تفسيراته التاريخية لمن مورس عليه هذا الفعل الصفري.
إننا لا نعرف هل كان في المجتمع المصري من فكر بالمسافة صفر ضد الوجود الفرنسي، ولكننا نعرف أن من مارسها هو السوري سليمان ابن مدينة حلب على الجنرال كليبر عندما تقدم إليه متنكراً على شكل شحاذ وطعنه مسجلاً صفرا على طريقته السورية، والمعبر على خصوصية هذا الصفر السوري ما يورده نقولا الترك في مذاكراته أن سليمان الحلبي عند سؤاله في أثناء التحقيق عمن يعرف بما خطط به؟ فأجاب (تنين غزاوزة) إي شخصان من غزة.
لا يختلف سلوك المسافة الصفر الذي فعله الشهيد سليمان الحلبي مع ما فعله أبناء جبال اللاذقية بقيادة الشيخ صالح العلي وهم يسجلون مسافات الصفر ضد الوجود العسكري الفرنسي أو ما فعله وزير الدفاع السوري الشهيد يوسف العظمة في ميسلون عندما كان بنفسه صفراً لهذه الأمة المشرقية المبدعة. تستطيع أيها القارئ أن تطلع على أحداث ثورة العراق 1920م والثورة السورية الكبرى 1925م لتتعرف على تاريخ هائل وملحمي من ممارسة المسافة الصفر لضعفاء الجانب المظلومين من قادة وجنود غُلبت بلادهم على أمرها أمام واقع القوة الغاشمة.
ماذا لو حدثت المسافة صفر؟
طُرحت مسافة صفر كفعل وضرورة في تاريخ المشرق الحديث عند الأديب انطون سعادة الذي كتب عام 1925م وعمره 21 عاماً مقالته المبكرة التي نبه فيها إلى الخطة المنظمة التي وضعها يهود العالم بمختلف مشاربهم واخلاقهم في الصهيونية لاحتلال سوريا الجنوبية، نجده في مقالة أخرى من نفس العام وتحت عنوان (سوريا تجاه بلفور) يحتفل بالغضب والاجتجاج الذي رافق زيارة بلفور إلى مختلف المدن السورية في ذلك الوقت، ويعتبره تنبهاً اجتماعياُ عاماً للأمة على خطر هذه الوعد وتوحد إرادة الأمة برفضه، ولكنه يطرح في مقاله السؤال الصفري لأنه كما يقول من المؤمنين بالجمعيات السرية (ماذا كان يحدث لو أصاب بلفور مكروهاً فيها؟) ويأكد أن هذا الفعل ما كان يجب أن يقع في فلسطين التي تخضع للاحتلال الانكليزي لما سيعنيه هذا الفعل على رجالاتها الوطنيين من اعتقال وتنكيل بل في دمشق التي تعتبر محتلة من الفرنسيين من الوجهة القانونية والمفوضية الفرنسية هي المسؤولة عن حياته أمام الإنكليز. ويقول: (ولو وجد في سوريا رجل فدائي يضحي بنفسه في سبيل وطنه ويقتل بلفور لكانت تغيرت القضية السورية من الوجهة الصهيونية تغيرا مدهشاً. فإن الصهيونيين عندما يرون أن واعدهم بفلسطين قد لقى حتفه يعلمون أنهم يواجهون ثورة حقيقية على أعمالهم غير المشروعة ويوقنون أن سوريا مستعدة للمحافظة على كل شبر من أرضها بكل ما لديها من الأسلحة العصرية والقديمة.) وطبعاً غني عن البيان أن أنطون سعادة ترك المغترب وعاد إلى وطنه المشرقي وأسس حزباً اعتبره الخطة النظامية في مواجهة الخطة النظامية اليهودية مما جعله يقول غاضباً عند إعلان تأسيس الدولة لقد سبقني اليهود، كان في استشهاده يسجل صفراً في مسافة فكرية وجسدية للالتحام مع عدو الأمة السورية.
أصفار الوهم الخطرة:
نالت كيانات المشرق العربي استقلالها لمصلحة خطة القوة الغاشمة التي وضعت حدود سايكس بيكو عبر معاهدات استقلال مشروطة، فتراكمت على هذه الكيانات كل أشكال التفتت السياسي وضياع الطاقة والحيوية للأمة المشرقية، وأصبح حقها المشترك في الوجود والحياة حقوقاً مقسمة إلى إرادات تخرج عن مجتمع واحد إلى مجتمعات أو طوائف أو إثنيات، وليس تاريخ الانقلابات والانقلابات المضادة إلا لعنة هذه المشرق بسياسييه وثقافتهم العثمانية البالية أو مغامرات عسكرييه البائسة، ولتصبح مقررات المؤتمر السوري العام السابقة للاحتلال الفرنسي والبريطاني قضية دراسية وأدبية عوضاً عن أن تكون مشروعاً سياسياً وحقوقياً كتب في لحظة نادرة من حياة هذا المشرق.
إذا جاز لنا التعبير سجل الغرب القوي في بلادنا صفره بقوته الغاشمة، فلا الأنظمة الملكية لنفس الأسرة، ولا الأنظمة العقائدية المتشابهة، استطاعت أن تضع أي مصلحة للمشرق أمام مذبح علاقاته البينية المضطربة بسوء الفهم والمؤامرات المتبادلة بين كياناته. وإذا كان وجود القوة السوفيتية صنع حجاباً خفيفاً ستر عيوب ضعف هذا المشرق وكياناته أمام قضاياه وشعوبه، فقد جاء انهيار الكتلة السوفيتية واختلال موازين القوة العالمية ليكشف مقدار ضعف هذه الكيانات وهشاشتها. فكانت المسافة صفر لأمريكا في احتلالها العراق 2003 ودخوله في نفق الحرب الطائفية والإثنية المدمرة لنسيجه الاجتماعي، وكان هذا التدمير ممارساً بمسافة صفر ابتكرها الزرقاوي وخلفاؤه من داعش والتي تمثلت بالقتل ذبحاً أمام عدسات الكميرات. وليس غريباً أن هذا الصفر الدموي بمشاريعه التفريغية للجغرافيا الاجتماعية بواسطة العنف الشديد وصناعة الموت أن يسمح له باختراق محرم الحدود بين سوريا والعراق ليشكل دولة داعش بكل صفقاتها السرية للنفط والسلاح بمحيط متفجر بالأزمات والثروات والصراعات. ولا أظن أحداً يستطيع أن يضمن أن القضاء على هذا المشروع ليس أكثر من انكفاء مؤقت لوقت آخر أمام مفاصل حياة المشرق القادمة وخاصة أن مشروع داعش مارس صفره في كل الدول المنخرطة في مساندة غزة، وغزة أيضاً.
جديد صفر غزة:
جاء صفر غزة في 7 تشرين استمراراً لجميع أصفار المشرق في أفعال رجاله ونسائه من الشهيدة سناء محيدلي وعمار الأعسر وخالد الأزرق وخالد علوان ودلال المغربي، ولا ننسى سيد المسافة صفر الشهيد عز الدين القسام في استشهاده محاصراً. جاء صفر غزة بعد يوم واحد من بداية نمط جديد من استهداف سوريا بمسيرات متفجرة على هدف مدني وعسكري في إحدى الكليات في 6 تشرين. جاء صفر غزة بعد عقد من الحديث عن مشاريع ممرات مائية ونفطية وغاز تدور حول غزة لتصفي المسألة الفلسطينة وحقوق شعبها لمصلحة شركات وقوى عظمى غير متفاهمة على شكل جديد لحياة دول المشرق والعلاقات الدولية. جاء صفر غزة بعد عقد ونصف من نصر تموز وما لحقه من دمار على دول وشعوب المشرق التي شاهدت رويدا رويدا الصعود الاسرائيلي ليتسيد المشهد في ملفات المشرق مهدداً من يشاء وضارباً من يريد ومطبعاً مع البعض. جاء صفر غزة ليذكر بتوحش الآلة العسكرية الإسرائيلية ومشاريع سياسيي هذه الآلة وبعد عقود من شيطنة طوائف وإثنيات المشرق ومحيطه بحجج تغيير الأنظمة الفاسدة.
جديد صفر غزة أنه جاء متعدد أبعاد القوى، فما لا تستطيع غزة يومياً تدميره من العدو مادياً وجسدياً بسبب واقعها الجغرافي ومقدرتها العسكرية يتم استهدافه من لبنان في شمال فلسطين، وما لا تستطيعه غزة من الضغط على من يعتبر حليفاً للعدو يقوم به العراق على القواعد الأمريكية الموجودة في سوريا والعراق، وما لا تملكه غزة من قرار استراتيجي في الحرب يؤثر على القوى العظمى يقدمه اليمن في باب المندب الذي شكل مفاجأة خطيرة للعدو مما سمح لسوريا أن تبقى لغزا في ساعة صفرها الخاصة.
جديد صفر غزة أنه يظهرها بوضع كيان دولة مرنة الأذرع وأوراق القوة بما يتجاوز مقدرة دولة منفردة. وهذه المعركة جديدة بتجربتها ومفهوم قوتها في النصر والهزيمة، ويصعب مع هذا النمط من المعارك التنبؤ بسياقاته لتعقيده وحساباته المتدحرجة التي لا نعرف الكثير منها إلا استنتاجاً وربطاً وتحليلاً.
جديد صفر غزة أنه ذكر الشعوب العربية بواقع الجيوش المخزي في معاركها السابقة، وأن قوة حزبية مؤلفة من ألف ونيف من المقاتلين استطاعوا تدمير ما وضعه العدو كمعيارٍ لقوته على جميع الكيانات في محيطه، فهو سيد القوة التكنولوجية والأمنية التي ظهرت عاجزة مشلولة في 7 تشرين، وأن كل ميادين المعركة المتعددة هي حزبية باستثناء دولة اليمن الذي يبدو البطاقة الذهبية المؤثرة من معركة غزة إلى تعقيد ملامح الأقتصاد العالمي قبل 7 تشرين.
جديد صفر غزة أنه يومي الأثر والفعل، فكل ما يطرح في الإعلام من مشاريع يتحدث بها العدو وحلفاؤه عن واقع غزة ما بعد المعركة محصلته الأخيرة وشرطه هو النصر الميداني الذي يزداد شراسة في غزة ذاتها من دون حساب باقي الجبهات، مما يذكرنا بالمثل الشعبي المتعلق ببيع جلد الدب قبل اصطياده. فكل مشروع يطرح نراه يطعن من مسافة صفر لمصلحة مشروع آخر توجه له الطعنة أيضاً في كل ميادين المواجهة.
جديد صفر غزة أن ميدانه غزة حكماً ولكن الميادين المحيطة به لها كلمتها الفصل لواقع جديد سيكون قاسياً على العدو أيّاً كانت طبيعة نتيجته النهائية في ميدان غزة بالتحديد.
جاء صفر غزة، ليظهر وحدة مصير أبناء المشرق في دمشق وبغداد وبيروت أمام العدو وعدم نجاة الأردن ومصر وقبرص من المصير والقدر الخطير الذي يحيط بوجودهم على الرغم من الاتفاقيات التي لن تحميهم من تداعيات 7 تشرين. هذا الصفر العسكري المحقق في ميادين المحاربين مع غزة لا يجب أن يبقى صفرا كفعل عسكري فقط لأن صفر غزة الحربي الذي بدأ في 7 تشرين، بغض النظر عن نتيجته النهائية، شكل صدمة نفسية ومادية كبيرة وسيكون لنتائجها أصداء إقليمية وعالمية تتجاوز 11 أيلول كما أتصور. هي صدمة جعلت من نتائج الربيع العربي وقضاياه ظاهرة هامشية وأوراقاً صفراء محترقة في عواطف وأفكار ومخاوف مجتمعات الشعوب العربية التي تراقب كل تفصيل يجري في غزة، حتى لو لم يتم التعبير أو التصريح عن هذه الأفكار والمخاوف والتعاطف، فالأسئلة حول معنى قوانين وحقوق الإنسان وشرعة الأمم والحياد وشرعية الأنظمة وكل ما جرى مدحه وشتمه واعتباره محقاً أو باطلاً قبل 7 تشرين أصبح كالجمر تحت الرماد الذي لا نستطيع تخيل تداعيات سخونة وهجه على مجتمعات تتكشف أمامها يومياً مواقف أنظمتها مما يجري. لن تكون هذه الصدمة ذات أبعاد إيجابية فقط، بل سلبية وربما كارثية، ولذلك على أبناء المشرق التفكير بالسؤال الخطير عن حياة المشرق في اليوم والشهر والعام والعقد التالي للحرب على غزة.
كان اقتحام مستوطنات غلاف غزة في 7 تشرين بمثابة الطعنات التي وجهها سليمان الحلبي إلى الجنرال كليبر. ورغم بقاء كليبرمحتضراً بعضَ الوقت قبل موته، فنجاته ما كانت ستعني شيئاً لأن الـ تنين غزاوزة سيتكفلون بإعادة المهمة في ما بعد كأي فعل مقاوم. لقد طعن المشرق في غزة بلفور ووعده في 7 تشرين، فهل يتابع المشرق ويطعن واقع سايكس وبيكو وينتصر المؤتمر السوري؟ الأيام حبلى وغزة أشعلت الضوء.
*سلسلة الأساطير السورية، ترجمة: مفيد عرنوق. ط1 دمشق 2000