المدرسة ليست سجنًا.. والتعليم ليس عقوبة!

Share

(بدأ العام الدراسي الجديد).. مهما بدت تلك الجملة بسيطة، إلا أنها تعتصر أعماق الذاكرة، لتخرج منها سنوات مضت، كنا فيها طلابًا على مقاعد الدراسة، وتعيد شريطًا من الذكريات، يمتد لاثنتي عشر سنة.. ذلك الاستحضار السريع، اللاإرادي للذاكرة، يتوقف عادة عند اللحظات المزعجة، وقد لا تزعجنا بعد مرور الزمن، لكننا ندرك تمامًا أنها مؤرشفة ضمن قسم المُزعجات.

بناء، صفوف، باحة، غرفة مدير، برنامج حصص، بحر من الطلاب، ضجيج، صراخ، اصطفاف في طوابير، شتائم، مساطر خشبية طويلة تلوح مهددة، ومتجاوزة التهديد حينًا، وصولاً إلى السور المرتفع الذي يحبس بداخله كل ما سبق ست ساعات يوميًا على الأقل، ثم جرس الانصراف، معلنًا اتساع العالم.. ذلك المشهد اليومي الذي تصوره عينا طفل، لا يمكن أن يُحفظ تحت بند الممتع أو السعيد في الذاكرة، مهما حمل من تفوق ونجاح.

قبل سنوات، حاولت وزارة التربية السورية، تصحيح العلاقة بين الطلاب ومعلميهم، وكسر قتامة المشهد داخل سجون الدراسة تلك، وبعد البحث لم تجد شيئًا أشد سوءًا من ضرب الطلاب، فقامت بمنعه منعًا باتًا، ومنعت جميع الأدوات التي كانت تستخدم لتنفيذه، كما قامت بإضافة، فوق الازدحام الحاصل، مرشدين نفسيين في المدارس.

تقول هبة، الحاصلة على إجازة في علم الاجتماع، والتي تعمل كمرشدة نفسية في إحدى مدارس دمشق: “دور المرشد النفسي هو فض النزاعات الحاصلة بين الطلاب، وحل المشكلات بينهم، في الباحة أو ضمن الصفوف الدراسية، بالإضافة لإعطاء دروس (توجيه جمعي) للطلاب، وهي عبارة عن مواضيع توجيهية يقوم باختيارها، تحمل رسائل متنوعة للتوعية العامة.” أما عن علاقة الطلاب بالمرشدين النفسيين تقول: “المرشدون محبوبون عادة، لأنهم يتعاملون بلطف، ويحاولون حل المشكلات بالنقاش الهادئ مع الطلاب، على عكس الكوادر الإدارية والمعلمين.” وعن علاقة المرشد النفسي بحالات الطلاب النفسية تقول: “علاقة المرشد بالطالب تقتصر على فترة الدوام داخل المدرسة، ولا علاقة لنا بما يعانيه الطالب خارجها.”

فكرة المرشد النفسي لم تكن اختراعًا وزاريًا أنتجته الحاجة، فهذا الاختصاص موجود في مدارس أغلب دول العالم.. لكن كيلا نظلم وزارة التربية ومساعيها في الارتقاء بالوضع التعليمي، يمكننا القول إن قرار إيقاف الضرب كان من القرارات الحتمية الواجب اتخاذها، نظراً لخطورته في تنشئة الأجيال. أما فيما يخصّ المرشد النفسي، فالأمر يحتاج إلى دراسة معمقة، تتناول المهام الموكلة له والواجبات، وقدراته المعرفية في التشخيص والحل، والإجابة على السؤال الأهم: هل يمكن اعتبار مشكلات الطالب الشخصية خارج المدرسة، جزءًا من مشكلاته داخلها، والتي سوف تؤثر على شخصيته، وتصرفاته، وتحصيله العلمي بالضرورة، وبالتالي على مستقبله ككل؟ فهل تصبح جزءًا من اهتمامات المرشد النفسي في المدارس؟ أم أن وجوده سيبقى مقتصرًا على فض المعارك بين الطلاب وحسب؟

من الواضح أن وزارة التربية تطلع على ما تنتجه الأبحاث العالمية قبل اتخاذ مثل تلك القرارات، أو على أقل تقدير، هي تنقل جزءًا من التجارب العربية والعالمية، ولو بصورة متأخرة قليلاً.. لكن من الواضح أيضًا أنها تتجاهل بعض الدراسات والتجارب المهمة أيضًا، والتي دفعنا ثمن أخطائها نحن الطلاب القدماء، وقد كنا نأمل ألا يدفع الثمن ذاته أولادنا. لكان للأسف. وحتى لا يكمل المسيرة أحفادنا، سأروي قصة حادثة غيرت من طبيعة المدارس، وشكل التعليم، وفرضت قواعد جديدة على الكوادر التعليمية والمناهج التدريسية:

بعد ظهور مرض السّل كوباء عالمي، قبيل الحرب العالمية الثانية، باتت التجمعات البشريّة، وبخاصة المدرسية منها، تشكّل بؤراً لانتشار هذا الوباء، وأصبح التدريس في العراء السبيل الوحيد للابتعاد أو التخفيف من العدوى، فأخرجت دول شمال أوروبا طلابها إلى العراء، ومع مرور الوقت استساغت تلك الدول الفكرة وطوّرتها، مثل ألمانيا، وقامت بإنشاء مدارس بلا أسوار، اعتماداً على نصائح تربويين وعلماء نفس، ومن ثم حذت دول أخرى حذو ألمانيا وطوّرت التجربة مثل: الصين وكوريا الجنوبية، وكان المسوغ الرئيس لهذه الدول هو: المدرسة ليست سجناً، والتعليم ليس عقوبة.

هذا التوجه لم يظهر عبثًا، فعلى الرغم من إلزامية التعليم في جميع تلك الدول، إلا أنهم لم يجعلوه إجباريًا بالتخويف والترهيب، فمدرسة بلا أسوار، سوف تكون مجبرة على تأمين بيئة جاذبة للطلاب، يجدون فيها كافة المتطلبات التي تعوضهم عن المغريات الخارجيّة، وتشعرهم بقيمتهم وإنسانيتهم، وهو ما يحتّم وجود كفاءات تعليمية وتربوية، ومناهج حيوية لا تضغط على الطلبة، ولا تحيل حياتهم إلى جحيم. وهذا الأمر أفضل من الاحتفال قسرًا بيوم العودة إلى المدارس.

0
0