المدرحية علم  وفلسفة – الحلقة الثامنة

شحاده الغاوي

Share

اساس التطور الانساني بين العلم والفلسفة

يبدو أننا بحاجة الى مزيد من التوضيح والتوسع في مسالة الفرق بين علم الاجتماع وفلسفة علم الاجتماع، أي الفرق بين عقيدة تفسير التطور الانساني من جهة وأساس الارتقاء الانساني من جهة أخرى، حسب التعبير الذي استعمله سعاده.

لقد دعى سعاده الأمم “الى ترك عقيدة تفسير التطور الانساني بالمبدأ الروحي وحده وعقيدة تفسيره من الجهة الاخرى بالمبدأ المادي وحده، والى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الانساني هو أساس مادي روحي (مدرحي)، وأن الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الاساس وتشيد صرح مستقبلها عليه“. لقد ذكرنا في الحلقة السابقة أن هذا القول يتضمن ثلاثة اضلاع هي: فلسفة علم الاجتماع التي يسميها سعاده عقيدة تفسير التطور الانساني، ثم علم الاجتماع الذي يسميه أساس الارتقاء الانساني، ثم فلسفة الحياة أي الفلسفة الاخلاقية الوجوبية التي يسميها تشييد المستقبل.

لقد جرى نقاش وتساؤل حول ما ذكرناه، وخاصةً حول شيئين إثنين أولهما قولنا عن عبارة سعاده “أساس الارتقاء الانساني” أنها تعني علم الاجتماع، وثانيهما قولنا “أنه لو كان موضوع أساس الارتقاء الانساني هو موضوع علمي فقط  لما احتاج سعاده لدعوة الأمم الى التسليم معنا به، بل لكانت الأمم سلّمت معنا به من دون دعوة، كما يسلِّم الجميع بالحقائق العلمية دون الحاجة لدعوة من أحد”. إن بعض القراء رأوا تناقضاً في هذين القولين وإعتبروا أن “أساس الارتقاء الانساني” إما أن يكون شأناً علمياً يسلِّم به الجميع دون الحاجة من أحد لدعوة أحد آخر، وإما أن يكون هذا الاساس شأناً منتمياً الى فلسفة العلوم، حيث لا إجماع، فتصحّ عند ذلك دعوة العالم الى التسليم معنا تسليماً. وبما أن سعاده قد دعى العالم الى التسليم فهذا دليل أن هذا الاساس ينتمي الى فلسفة علم الاجتماع وليس الى علم الاجتماع نفسه.

إن الفرق بين أن يكون “أساس الارتقاء والتطور الانساني” شأناً علمياً إجتماعياً أو شأناً منتمياً الى فلسفة العلوم الاجتماعية وليس الى العلوم الاجتماعية نفسها، هو فرق دقيق ورفيع. لذلك قلت في الحلقة السابقة “أنه لو كان  موضوعاً علمياً فقط لما احتاج سعاده…”. وقولي هذا يعني أن الموضوع ليس موضوعاً علمياً فقط، بل هو موضوع علمي زائد شيء آخر. وهذا الشيء الآخر هو موضوع فلسفة علم الاجتماع. ولهذا السبب بالضبط قلنا عدة مرات وكررنا القول وختمنا به الحلقة السابقة وهو: إن مسائل فلسفة العلوم ثم العلوم ثم فلسفة الحياة والمستقبل هي مسائل تؤلف قضية واحدة وليست مسائل منفصلة ومستقلة تماماً عن بعضها، إنها تنتمي الى نظرة واحدة الى الحياة والكون والفن. لا يمكن وضع حدّ فاصل بين هذه المسائل، ذلك لأنها مسائل متصلة ومترابطة تماماً مثل أطوار الاجتماع الانساني التي يقول عنها سعاده أنها متصلة ومترابطة مع بعضها لدرجة أنه يستحيل رسم حدود بين نهاية طور معين وبدء طور جديد.

 أن عدم الاجماع في موضوع أساس الإرتقاء الانساني أذا كان مادياً أو روحياً أو مدرحياً، ليس مردّه أن هذا الاساس هو موضوع فلسفي وليس علمياً، فقط، بل مردّه أيضاً أنه موضوع مادي روحي وليس موضوعاً مادياً بحتاً. إن عدم الاجماع نجده في العلوم أيضاً عندما يكون موضوعها يشمل “قيماً روحية فاعلة في المجتمع” لا يمكن قياسها، بالإضافة الى شموله شؤوناً مادية يمكن قياسها والاجماع عليها بناء على هذا القياس. يقول سعاده في مقالة “الحق والحرية” سنة 1948، عن القيم الانسانية ما يلي: “ولما لم تكن هذه القيم مادية لم يمكن ان يكون لها تحديد واحد او مفهوم واحد في العالم”، ولا يخفى أن “التحديد والمفهوم” هما شيئان علميان وليسا شيئين فلسفيين.

هذا الموضوع كان قد طرِح في محاورة مع أحد الرفقاء القوميين الاجتماعيين منذ أكثر من خمس سنوات، ولعل جوابي آنذاك الذي أنقله هنا، بتصرّف، يلقي ضوءاً جديداً عليه. هذه هي المسألة الهامة التي أريد ان أناقش فيها وأرى انها تستأهل نقاشاً واسعاً يشترك فيه كل دارسي سعاده وكل قراء نشوء الامم وكل المهتمين بالعلوم الاجتماعية ومباديء هذه العلوم.

“إن قول سعاده، “…داعية الامم الى ترك عقيدة تفسير التطور الانساني بالمبدأ المادي وحده وعقيدة تفسيره من الجهة الاخرى بالمبدأ الروحي وحده، والتسليم معنا بان أساس الارتقاء الانساني هو أساس مادي روحي (مدرحي) وان الانسانية المتفوقه هي التي تدرك هذا الاساس وتشيد صرح مستقبلها عليه”، إن هذا القول يمر بعلم الاجتماع (أساس الارتقاء الانساني) ويتضمن ثلاث قضايا هي فلسفة العلوم والعلوم وفلسفة الحياة، وساشرح لك حجتي.

انت تقول أن موضوع أساس الارتقاء الانساني ينتمي الى فلسفة علم الاجتماع وليس الى علم الاجتماع، وحجتك هي عدم وجود إجماع حول أساس الارتقاء الانساني اذا كان أساساً مادياً روحياً أم لا، لذلك أنت ترى أن هذا الاساس ليس حقيقة علمية بل فلسفة علمية، أي أنه لا يزال في نطاق عقيدة التفسير التي قد تصيب أو تخطيء. أما حجتي انا فهي ما يلي:

كلانا متفقان أن سعاده لم يكن أكاديمياً فهو لم يحمل شهادة جامعية لا بالفلسفة ولا بغيرها، وتعابيره ليست اكاديمية بل هي خاصة به، ولا يجوز الحكم في معنى عباراته فقط بناء على القاموس الاكاديمي. مثلاً، فلسفة العلوم في القاموس الاكاديمي صارت “عقيدة التفسير” في لغة سعاده، كلانا موافق على ذلك. أما عبارة “أساس الارتقاء الانساني” فقد وجدتُ أنا أنه استعملها دائماً بمعنى الوقائع والحقائق الثابتة، أي العلم. وهكذا فإن هذه العبارة صارت تعني علم الاجتماع والتطور والارتقاء الانساني.

 لقد وصف كتابه نشوء الامم بأنه الأساس العلمي للعقيدة، ونصح جبران مسوح بأن يقرأ نشوء الامم ليكتسب منه أساساً علمياً ثم فلسفياً…الخ. ففلسفتنا الوجوبية لها أساس بُنِيت عليه، وهذا الاساس هو علمي، وعندما يتكلم سعاده عن “الأساس” فإنه يكون متكلماً عن الثوابت أي عن الحقائق والوقائع العلمية.

هذه حجة اولى، أما الحجة الثانية فهي “حجة الادراك”. إن سعاده قال بأن الانسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. العلم هو الذي ندركه إدراكاً وليس الفلسفة، الفلسفة لا ندركها بل نؤمن بها ونعتنقها ونتخذها عقيدة. إدراك الاساس إذن هو معرفته، والمعرفة هي للعلوم أما الفلسفة فلها الايمان والاعتقاد وليس المعرفة والادراك، والفرق واضح.

 الحجة الثالثة هي “حجة التشييد”. سعاده قال بأن هذا الأساس نحن نشيد مستقبلنا عليه. فنحن لا نشيد المستقبل على الفلسفة بل على العلم. أنت توافق على أن تشييد المستقبل يعني فلسفة الحياة، أي الفلسفة الاخلاقية الوجوبية – ما العمل؟ هذه الفلسفة نحن نشيدها على هذا الاساس العلمي ولا نشيد الفلسفة على الفلسفة. إذا كان الأساس لا يزال في نطاق الفلسفة كما تقول أنت، فتشييد المستقبل على هذا الأساس يصبح تشييداً للفلسفة على الفلسفة، وبديهي أن هذا غير صحيح.

أصل الى الحجة الرابعة وهي “حجة التسليم”. إن سعاده دعى العالم الى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الانساني هو أساس مادي روحي. التسليم يكون تسليما بحقائق العلم ولا يكون التسليم تسليماً بنظريات فلسفية، فالنظريات الفلسفية نرجحها ترجيحاً ولا نسلم بها تسليماً. الخلاصة هي أن عبارات الادراك والتسليم والتشييد لا تبقي مجالاً إلا للقول بأن “هذا الاساس” يعني “هذا العلم”.

أصل الآن الى المسألة الهامة التي احب أن اوضحها وهي: إن عدم الاجماع ليس مسألة تختص بالفلسفة وحدها، بل إن عدم الاجماع يتناول ويشمل علم الاجتماع أيضاً. وإن عدم الاجماع في علم الاجتماع لا يعني أن علم الاجتماع ليس علماً. إن علم الاجتماع يختلف كثيراً عن العلوم المادية والمنطقية الاخرى. في علم الاجتماع لا يكاد يوجد إجماع تام وكامل حول أي موضوع من مواضيعه إلا ما قل وندر، ويصعب كثيراً على علماء الاجتماع أن يجردوا علمهم عن النظريات الفلسفية والتأويلات التي تنتمي الى فلسفة علم الاجتماع وليس الى علم الاجتماع نفسه. وسعاده كان متنبهاً جداً لهذا الامر وهو قد وعد القاريء بأنه في كتابه العلمي سيتجنب التاويلات النظرية وسائر فروع الفلسفة ما وجد الى ذلك سبيلا. نعم إن الاجماع في علم الاجتماع هو قليل وها هو سعاده، إذ يجاري بعض العلماء، فإنه يختلف مع الكثير غيرهم. وكتاب نشوء الامم مليء بأسماء العلماء والمؤلفين والبحاثة والمساهمين الذين خالفهم سعاده وناقشهم، حتى إنه سخر من أحدهم، وهو “ارخ وسمن”، لأنه “لم يتورع عن أن يستنتج النظام الشيوعي في دولة النمل الابيض لمجرد أن دماغها صغير بالنسبة لحجم رأسها”!!

إن عدم الاجماع في علم الاجتماع له أسبابه التي سأبينها ولكن مهما كانت الاسباب فان عدم الاجماع لا يعني ان علم الاجتماع ليس علماً. إن السبب الرئيس لعدم الاجماع في علم الاجتماع هو أن الاجتماع الانساني ليس موضوعاً مادياً بحتاً يتم الحكم فيه بالقياس (على القياس يقوم الاجماع). إن علم الاجتماع لا يمكن استعمال القياس فيه دائماً، وسعاده يذكر ذلك ويقول في مطلع الفصل الاخير من كتابه العلمي نشوء الامم ما يلي: “…فكوننا اكتشفنا ناموساً أو ناموسين من نواميس الحياة العامة يجب أن لا يحملنا ذلك على نسيان الواقع الطبيعي ونواميسه الاخرى، فالنواميس لا تمحو خصائص الانواع. وإذا كنا اكتشفنا سنة التطور فيجب ألا نتخذ من هذه السنة (اي الناموس- القانون) أقيسة وهمية تذهب بنا الى تصورات تنافي الواقع وتغاير الحقيقة. إن القياس كان ولا يزال مصيبة كبيرة في الابحاث العلمية الاجتماعية خصوصاً في الابحاث التي لا تجرد علم الاجتماع من النظريات الفلسفية، من الفلسفة الاجتماعية. وهو الالتجاء الى القياس ما أوجد كثيراً من الخلط في المسائل الاجتماعية عموماً ومسألة الامة والقومية خصوصاً”.

كيف يكون هناك إجماع على نتائج علم الاجتماع إذا كانت هذه النتائج غير خاضعة للقياس؟ هذا هو دليل آخر على أن أساس التطور الانساني ليس أساساً مادياً يمكن قياسه أو القياس عليه، إنه أساس مادي روحي (مدرحي) وإن سعاده يدعو العالم الى شيئين اثنين هما الترك والتسليم. الاول هو ترك عقيدة تفسير التطور بالمبدأ المادي وحده أو المبدأ الروحي وحده، أي ترك فلسفة علم الاجتماع المادية أو الروحية. والثاني هو الدعوة الى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الانساني هو أساس مادي روحي معاً. أي الى التسليم معنا بأن حقائق علم الاجتماع والحياة هي حقائق مادية وروحية– نفسية معاً. لو كانت تلك الحقائق مادية فقط لما احتاج أحد لدعوة أحد غيره للتسليم بها، لكان العالم سلم بها دون دعوة مثلما يسلم بالحقائق المادية في الفيزياء والكيمياء والهندسة وغيرها، بدون دعوة.

إن الحقائق الاجتماعية هي قيم، والقيم الاجتماعية هي قيم مادية روحية معاً ودائماً. إقرأ سعاده في مقالته الخالدة “الحق والحرية” يقول: ” ليست قيمة الحق ولا قيمة الحقيقة والخير والجمال مادية، فهي لا تقاس بالسنتيمترات او بالأمتار المربعة او المكعبة ولا توزن بالأواقي والأرطال ولا تحد بمكان او زمان معين، إنها قيم إنسانية نفسية، إنها قيم مجتمعية”. ثم يقول: “ولما لم تكن هذه القيم مادية لم يمكن ان يكون لها تحديد واحد او مفهوم واحد في العالم. فلا إجماع على تحديد هذه القيم ومفهومها بصورة كلية مطلقة في العالم إلا حيث ينتفي تنوع النظر أو تنوع المصالح وتصادمها بين المجتمعات الانسانية، كما بين فئات المجتمع الواحد”.

نعم ليس هناك اجماع ولا أحد ينتظر أبداً أن يصير هناك إجماع كامل على هذه الاسس، وإننا نحن أيضاً لا ننتظر هذا الاجماع الذي لن يتم، بل إننا ندرك هذه الاسس إدراكاً تاماً ونؤمن بأن ما هي حقيقة لنا هي الحقيقة، كما إننا نؤمن مع سعاده بأنه “لنا الثقة بأن لنا المقدرة الاجتماعية العليا لكل مجتمع مدرك”، وإننا نعمل على تشييد مستقبلنا على هذه الاسس التي أدركناها.

في الختام، وتعليقاً على قولك: “…لذلك فهي ليست أسس بمعنى الحقيقة العلمية، وكذلك بالنسبة لجميع او أكثرية هذه الاسس، علينا إعادة النظر بها من منظار العلوم الحديثة ومعرفة إذا تبدل منها شيء أم على العكس زادت القناعة بها وتم التأكد منها كأسس علمية صحيحة”. بالإضافة الى إقرارك بأمكانية “التأكد منها كأسس علمية صحيحة“، فإن هذا القول معناه: فلننتظر لنتأكد… يجب إعادة النظر… لنعرف إذا تبدل منها شيء. وكله معناه إننا لسنا متأكدين من صحة عقيدتنا وأسسها العلمية.

 لا أعتقد أنك تقبل بهذا الشك ان يتسرب الى نفوسنا، لأنا نؤمن “بان الحزب قائم على يقين كلي وإيمان مطلق لا سبيل معه الى الشكوك، فالشكوك تكوّن الجبن والخوف والتردد والفوضى وعدم الوضوح. فلا سبيل لهذه المخاوف الى يقيننا”(سعاده في آخر المحاضرة الثانية).

هذا لا يعني ان مواكبة العلوم ليست واجباً، إن المساهمة والريادة في تقدم العلوم هي واجب، بل هي حاجة مستمرة دائماً وضرورية، وإذا وجد أحدٌ أن هناك حقائق علمية تخالف حقائقنا فنحن هنا موجودون بكامل جهوزيتنا وكامل “مقدرتنا الاجتماعية العليا”.

0
0