لقد رأينا في المقالة الاولى من هذه السلسلة أن سعاده استعمل كلمة مدرحية لأول مرة، كتابةً، بتاريخ 1-9-1941 في مقالته “بين الجمود والارتقاء” بعد أن كان قد إستعمل تعبير “الاساس المادي الروحي للحياة الانسانية” قبل ذلك بسنة ونصف، أي في خطاب أول أذار 1940. وكان منذ وضع مبادئ العقيدة سنة 1932 يتكلم على العوامل المادية والروحية في أحاديثه وخطبه ومقالاته خاصةً في مؤلفه العلمي “نشوء الأمم”، وما تعريفه للأمة ووصفها بأنها “…موحدة العوامل المادية الروحية…” إلا مثل واحد على ذلك.
والحقيقة أنه ليس من الصعب أبداً لمن يقرأ سعاده في جميع كتاباته أكانت علمية كما في كتاب نشوء الامم، أم كانت عقائدية وفلسفية كما في مؤلفاته وأعماله الاخرى من مقالات ومحاضرات وخطب ورسائل وشروح في العقيدة، أن يرى كيف أنه ينظر الى الحياة كلها وفي جميع شؤونها نظرة مادية روحية، أي نظرة تأخذ بجميع العوامل والقوى المادية والروحية الفاعلة والمتفاعلة والموجودة معاً ودائماً في كل شأن من شؤون الحياة الانسانية.
وسعاده الحريص على الجلاء والوضوح في كل أمر قد شرح المقصود من “الروح” بأنه كل ما هو قيمة إنسانية نفسية لا تقاس ولا تزان ولا تُحَدّ في مكان أو زمان معين، مع كونها اجتماعية فاعلة في الحياة ضمن هذا الوجود وليست مفارقة أو غيبية. نقول ذلك هنا لقطع ونفي أي إعتقاد أو تأويل يرد فكرة “الروح” الى ما ليس له علاقة بالحياة والاجتماع، كاللاهوت أوالتأويلات الدينية لما يسمى “الارواح” مثلاً. إن الروح التي نتكلم عليها هي القيم الاجتماعية الانسانية التي يقول عنها سعاده أنه ليس لها تحديد واحد في العالم لأنها ليست مادية (نظرة سعاده الى الأنسان. الاعمال الكاملة 8 ص 174). وعدم ماديتها، لأنها لا تقاس ولا تزان ولا تحدد بزمان ومكان معين، لا تعني أنها قيم نظرية مجردة غير فاعلة، بل هي قوى إنسانية فاعلة في الحياة مثل الحق والخير والجمال والعدالة والارادة والتصور والفكر والمعارف والعلوم والثقافة وسائر القيم النفسية التي يتميز بها الانسان. ففي مؤلفه العلمي “نشوء الأمم” في الفصل الخامس منه يقول سعاده عن القيم النفسية أنها “فاعلة في المجموع”. وفي الفصل الرابع يقول إن أفعال أي كائن هي أفعال ناتجة عن تفاعل ثلاثة أضلاع هي الجسم والنفس والمحيط. وفي نفس الفصل يقول أيضاً بان ظهور الفكر له كل الاهمية في الحياة والاجتماع الانسانيين. واليوم بعد سبعين سنة من غياب سعاده، ومع إزدياد المعارف وتطور العلوم، مما يعني إزدياداً وتطوراً في القوى الروحية غير المادية ودورها في ترقية الحياة والعمران، صار من السهل أكثر رؤية الدور الفاعل والمحرك والمؤثر لهذه القوى والعوامل في الحياة والاجتماع والاقتصاد. فعبارة “إقتصاد المعرفة” أو “الاستثمار في المعرفة والعلوم” لم تكن متداولة منذ سبعين سنة خلت. وإن من يقرأ كتاب نشوء الأمم يدرك كم كان سعاده حريصاً على إبراز جميع القوى والعوامل المادية والروحية الفاعلة والمؤثرة والمحركة للحياة في كل مراحل التطور الاجتماعي إطلاقاً. فالفكرة المدرحية ليست فقط فكرة فلسفية بل هي فكرة علمية ومنهج علمي وأساس لدرس ومعرفة الحياة وعواملها.
ولسعاده قول فصل يثبت ما نذهب اليه من أن الفكرة المدرحية نجدها في منهج سعاده العلمي، وليس فقط الفلسفي، وهذا القول ورد على لسانه في مقالة “بين الجمود والارتقاء” هكذا: “ومن إستعارات رشيد الخوري قوله في الدين الإسلامي إنه مدرحي، أي مادي روحي معاً، فقد يظن القارء غير المطلع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية للخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتاب نشوء الأمم ومن شرح مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، فهو فكرة فلسفية إجتماعية للزعيم أبداها في مناسبات عديدة. وآخر ما أعلنه من أمر نظرته الفلسفية كان في خطابه في أول أذار سنة 1940″.
ولعل الفرق الكبير بين القومية الاجتماعية من جهة والماركسية من جهة أخرى هو فرق في النظرة العلمية للوجود الاجتماعي الانساني، وليس فقط في النظرة الفلسفية – المعيارية – الاخلاقية له. فالماركسية لا تنكر ابداً وجود الروح والقيم الروحية في الحياة ولكنها تنكر الدور الفاعل لهذه القيم في التاريخ، أي في سير الحياة والتطور، وتعتبرها مجرد إنعكاس للمادة غير فاعل وغير مؤثر وغير محرِّك وغير دافع للتطور. حتى أن الماركسيين لا يعترفون بعلم الاجتماع أنه علم، ويعتبرون أن العلوم كلها “موضوعية” أي مادية، وكل ما هو غير مادي لا يدخل في دائرة العلم.
وفي المقابل فإن سعاده، لأنه مدرحي، يقول “بالأساس المادي الروحي للحياة الانسانية”، ويعطي القوى والعوامل الروحية دورها الحقيقي في درسه للاجتماع الإنساني وتطوره وللتاريخ وسيره دون نكران الأساس المادي للحياة الانسانية. فمثلما يعطي أرجحية لدور القوى والعوامل الروحية في شؤون معينة، فإنه في شؤون أخرى يعطي هذه الارجحية أو الأسبقية للأساس المادي للحياة الانسانية. نعطي مثالاً على ذلك من الفصل الخامس من نشؤء الأمم حيث يقول: “…ابتدأ العمل العقليّ في هذه الثّقافة يرجح على غيره، فالتّجارة عمل عقليّ. فكان على الّذين أوجدوا الثّقافة الاقتصاديّة الجديدة أن يبتدعوا الطّريقة العمليّة للحياة العقليّة ويضعوا أساساً جديداً متيناً للثّقافة الإنسانيّة. كان على سورية أنّ تكمّل ثورتها الثّقافيّة وتفتح طريقاً جديدة للارتقاء الثّقافيّ فاستنبط الكنعانيّون (الفينيقيّون) الأحرف الهجائيّة فتمّت قاعدة التّمدّن الحديث.”
إلى أن يصل إلى القول: “قادت الأبجديّة العالم في طريق المعرفة والعلم وتفوّق القوى العقليّة على صعوبات الطّبيعة إلى الآلة الاقتصاديّة الّتي وضعت في يد الرّأسماليّ قوّة لم يكن يحلم بها، ففاقت قوّة الرّسمال المتعاظم أيّة قوّة أخرى مناقبيّة أو مادّية.” وفي نفس الوقت وفي نفس الموضوع يقول في مكان آخر في نفس الفصل: “إذا كان العقل هو نتيجة تطورات الدماغ الفيزيائية، فالعقلية الاجتماعية هي نتيجة التفاعل المادي لتامين الحياة الاجتماعية”.
وسعاده يتكلم أيضاً في أبحاثه العلمية عن “الضرورة الاقتصادية” كأساس مادي للاجتماع البشري فيقول: “إن الرابطة الاقتصادية هي الرابطة الاجتماعية الاولى في حياة الانسان او الأساس المادي الذي يقيم الانسان عليه عمرانه… فالاقتصاد هو نقطة الابتداء في بحث حالات الاجتماع، والتطور الاجتماعي هو دائماً على نسبة التطور الاقتصادي.” (الفصل الخامس- المجتمع وتطوره).
والجدير بالذكر هنا أن سعاده يستدرك ويوضح معنى ودور “الضرورة الاقتصادية” فيقول في هامش الفصل الخامس ما يلي: “لسنا نقصد بالضرورة الاقتصادية أن الاقتصاد هو أساس أو مرجع جميع المظاهر الاجتماعية، فلا نزعم أن الاقتصاد هو الدافع الى الحب والزواج والعناية بالبنين أو أنه الباعث على محبة الموسيقى، ولكننا نزعم أنه لا يكاد يعقد زواج حتى يدخل العامل الاقتصادي أساساً لكيانه وبقائه، وأن محبة الموسيقى، من حيث هي مظهر إجتماعي، تبقى عقيمة أو أولية بدون الاساس الاقتصادي، ولا يمكن الفصل عملياً بين الحياة ومقوماتها”.
أما في الفصل السادس فيقول “بأن الثقافة النفسية جارت الثقافة المادية وقامت عليها، إذ الحياة العقلية لا يمكن أن تأخذ مجراها إلا حيث تستتب لها الاسباب والمقومات”.
أنه لواضح جداً إذن أن سعاده ينظر الى الوجود والحياة الانسانيين، علمياً، نظرة مادية روحية، أي مدرحية، وإننا في هذه السلسلة نهدف، بالإضافة لشرح معنى الفلسفة المدرحية، أو الصفة المدرحية للفلسفة القومية الاجتماعية، الى البرهان، ربما لأول مرّة، بأن المدرحية هي أساس علمي وفلسفي معاً، انها علم وفلسفة وليس فقط فلسفة.
أيهما الاساس، العلم أم الفلسفة؟
قلنا لحد الآن أن المادة والروح معاً هما أساس للحياة الانسانية، فماذا عن العلم والفلسفة، أيهما هو الأساس؟
سعاده يستعمل في أكثر من مكان عبارة “أساس علمي وفلسفي”، وعبارته يمكن أن تطرح إشكالية عند بعض الدارسين الذين، مع تسليمهم بالأساس المادي الروحي للحياة الانسانية، يعتقدون أن العلم هو أساس للفلسفة وليست الفلسفة هي أساس للعلم. نعم إن الفلسفة المعيارية – الأخلاقية – الوجوبية التي تعنى “بما العمل” أو ماذا يجب أن علينا أن نعمل، فلسفة بناء المستقبل على أساس العلم، هي بناء وليست أساسا. هي بناء أساسه علم. لكن للفلسفة مستوى آخر غير الفلسفة الاخلاقية. ونعني مستوى ما نسميه “فلسفة العلوم”، أي ما قبل العلوم، أو ما يمكن أن نسميه: “لماذا العلوم هي كذلك؟” إذا كانت العلوم تعنى بالسؤال: “كيف هي الاشياء”، فإن فلسفة العلوم تعنى بالسؤال: “لماذا الاشياء هي هكذا”. بهذا المعنى نستطيع القول بان الفلسفة (فلسفة العلوم) هي أيضاً أساس. مثال على إستعمال سعاده المتكرر لتعبير “الاساس العلمي والفلسفي” نأخذه من القول التالي من مقالة “نسر الزعامة السورية القومية الاجتماعية ووحل توكومان وذبابها”، يقول:
“…معالجة القضايا الاجتماعية- السياسية في أساسها الفلسفي من وجهة نظر عقيدتنا…”، وأيضاً:
“…فأخذ الزعيم يعالج ذهن جبران مسوح بالشروح المسهبة، ويكرر عليه وجوب قراءة كتاب نشوء الأمم ليكتسب منه أساساً علمياً وفلسفياً يمكّنه من فهم الابحاث الاجتماعية والسياسية الهامة للمجتمع الانساني ومصيره”. (الاعمال الكاملة ج 7 صفحة 116 و117).
إن قول سعاده بأن كتاب نشوء الأمم هو الأساس العلمي للعقيدة، أي للفلسفة، لا يجب أن يعني أن العلم هو أساس الفلسفة دائماً، وأن الفلسفة لا يمكنها أن تشكل أساساً للعلم أبداً. فللفلسفة مستويان أو وظيفتان أثنتان: الاولى هي الفلسفة الاخلاقية الوجوبية التي هي بناء أساسه علم، والثانية هي فلسفة العلوم وخاصةً العلوم الاجتماعية، وهذه الثانية هي أساس ومنهج لا بد للعلوم من البناء والاعتماد عليه. وهذا ما سنبيّنه على لسان سعاده في الحلقة التالية من هذه السلسلة تحت عنوان “النظرة الى الحياة والكون والفن”.
0 Comment
[…] الحلقة السابقة من هذه السلسلة قلنا إن الجديد الذي تقدمه المدرحية، كفلسفة، هو فكرة […]