كثيرون لا يريدون الاعتراف بأن العصر الحالي الذي تعيشه البشرية هو عصر المجتمعات (Societies). فبلاد الدنيا في غالبيتها تعيش هذا العصر بوضوح تام وبلا مواربة أو تكييف للقيم أو الأفكار. فالمجتمع الحديث حصراً هو الوحدة الوحيدة المتداولة في سياق الوجود البشري على هذه الكرة الأرضية. ربما نكون في نهاية هذا العصر ولسوف تنتقل البشرية إلى عصر جديد، ولكننا لمّا نزل فيه وعلينا تطبيق إستحقاقات هذا الوجود المجتمعي حتى يصح لنا وعلى الأقل “الإنتقال” إلى عصر ما بعد المجتمعات الذي يتسابق عليه التفكيريون المحدثون من الناطقين بالعربية.
من نافل القول أن نعيد ونكرر ما نعلمه جميعنا أن المجتمع الواحد هو أمة واحدة، والقومية هي وعي هذا الوجود، وأن المجتمع (Society تحديداً) والأمة والقومية هي جميعها من منجزات عصر الأنوار الذي تناهى إلى يومنا هذا على شكل أمم ناجزة فاعلة منتجة ذات مكانة، بما يعني أنها جميعها حداثية وعالمية بالضرورة، بغض النظر عن خصوصية كل تجربة على حدة. لكن الأساس هو المجتمع الواحد الذي يقوم على المساواة كمنظومة حقوقية ترعى المصالح الجامعة لأعضاء المجتمع، حيث تنتفي في هذا المعيار المجتمعي كل الثنائيات أو الثلاثيات أو المتعددات الهوياتية، فالجميع متساوون في العضوية المجتمعية حيث يمكننا الإتيان على ذكر مجتمع ثنائي اللغة أو ثلاثي الأديان أو متعدد الأصول الأثنية، أو متنوع الفولكلوريات. ولكن معرفياً لا يمكننا القول بمجتمع متعدد القوميات، لأنه ومن خلال قراءة المفهوم الحداثي للمجتمع الأمة لا يمكن وجود أمة داخل أمة. وهو ما يؤثر سلباً وبالتأسيس على وجود المجتمع، الوحدة الحداثية الوحيدة المجتمعة بالمصالح وللمصالح، التي تستطيع توليد دولة راشدة لتكون الوحدة الوحيدة القادرة أيضاً على صياغة مفهوم الوطن بحدوده الجغرافية كوعاء إنتاجي يفرز هوية ويعلنها.
هناك تعاكس حقيقي بين مجتمع متعدد القوميات والمجتمع السوسايتي الأنواري. ويعود تعريف هكذا قوميات إلى فترة ما قبل إختراع المجتمع الحديث القائم على المساواة أولاً وحصراً. فالقوميات المتعددة تعني تماماً المجتمعات المتعددة، وهذا أمر تجاوزته المجتمعات الحديثة. فسويسرا وبلجيكا والهند وكذلك كندا وأميركا والبرازيل وأستراليا وحتى الصين (وكلها أمثلة) تعيش في مجتمع واحد ذي أصول أثنية متنوعة ولغات وأديان متنوعة. واعتمادها أنموذج المجتمع الدنيوي الحديث هو ما جعل منها مجتمعات / أمماً موحدة ومنتجة، قابلة للتداول في نادي الفاعلين المؤثرين.
إضافة إلى ما سبق، علينا ملاحظة أن المجتمع الحديث الصالح للعيش والإستمرار هو نتيجة عملية إجتماعية قصدية وإرادية ناتجة عن فعل الأعضاء بتنفيذ إستحقاقات الإلتزام بالمعرفة، المعرفة التي أنتجها وما زال يرتقي بها الإبداع الفكري العالمي (وليس الغربي كما يتوهم الكثيرون). هذه المعرفة المفهومية التي تتوازى وتنجدل مع الإبداع المشخص في كافة المجالات الحياتية هي معرفة واجبة الممارسة، إذا كان المطلوب هو الوجود كمجتمع / أمة بين المجتمعات / الأمم. وهو أمر لا مجال فيه لغير القصدية، مثل الإتكاء على مفاهيم تتبنى مسميات (مجتمع، دولة، قومية، تراث، هوية إلخ) غير متطابقة ولا معبرة عن المعنى الأنواري لها، وحشرها في تنظيرات تفكيرية هوامية تصل في مفاعيلها إلى حدود تفجير التجمع البشري (الذي تطلق عليه مسمى مجتمع) وتبعثره، لأنها تعتبر المجتمع تحصيل حاصل عملية توارثية تصل بالإسالة المريحة إلى حقيقتها القديمة وتستقر. وهذا ما يفتح بابين للسيرورة الاجتماعية، بابين لا ثالث لهما يجتمعان في نهاية النفق على الخراب: الأول هو القومية التراثوية المعبرة عن مجتمع تراثوي لا يستطيع العيش فيزيائياً في الماضي فيجلب الماضي إليه. والثاني يرجم القومية بالعموم ويعهرها، ومن ثم يحترمها عند حديثه عن مجتمع متعدد “القوميات” ممارساً وعيه التقليدي أو ما قبل الأنواري لرؤية إلى المجتمع / الأمة، فيعترف به تارة وينكره تارات، في حالة من التملص من إستحقاقات المعرفة، عبر محاولة تكييفها لتكون على مقاس الثقافة الشعوبية المتوارثة. وهنا أيضاً نرصد مؤديات هذين التفكيرين حيث يبدآن (بالنوايا) قاصدين وجهة المجتمع الحديث المعمول به حالياً، لينتهيا إلى تجمع سكاني تقوده سلطة تعطيه هويتها كمستبد عادل، حيث تسيطر الغوغائية والاستشهادات الفهلوية بأقوال المشاهير في تجاوز إحتقاري لإرادة الالتزام المعرفي للناس التي تقود إلى فعل تأسيس المجتمع (السوسايتي)، وذلك خضوعاً للتناغم مع أكثرية شعبوية يعد الخروج عنها كفراً. لتبدو هكذا محاولات تفكيرية أنها تتجاهل (أو تجهل) القصدية في أمر تأسيس المجتمع الواحد، لتصل إلى عكس ما أعلنت عن مقاصدها. وربما هنا ينفع كمثال تلك الأحزاب التي تبنت القومية وأنتجت مجموعات ذات معرفة مختلفة عن (نواياها) مثل الطائفية. وكذلك الكثير من هؤلاء الرجال المنعوتين برجال النهضة الذين أنتجوا مدارس للجهالة والتخلف كمزوري “الإصلاح الديني” وجعله “تجديد الخطاب الديني”.
“من نحن؟” ليس سؤالاً ماضوياً حتى نتعالى عليه ونتجاوزه بخفة، أو ندرسه ونمحصه عائدين إلى طبقات التراث أو التاريخ السردي (أي غير المنقود أو المعمول عليه معرفياً)، بل هو سؤال أنواري على علم بوجود المجتمع (السوسايتي) وتطبيقاته المعرفية في العالم، معتبراً أنه من المنطقي أن ينوجد الإلتزام المعرفي بسبب حدوث العلم، حيث يترك لما يعتبر خصوصيات حرية التأثير في شكل الممارسة المعرفية للعلم. فمن نحن كسؤال يعني تماماً سؤال: أي مجتمع من هذه المجتمعات نحن، أو من علينا أن نكون نحن… متجاوزاً تماماً سؤال من كنّا، وهو سؤال مجاب عليه سلفاً فلا لزوم أن يجاب على سؤال من نحن إذا كان الجواب من كنّا، حيث أيضاً لا وجوب للسؤال أساساً، لأن من كنّا هو قبل إختراع المجتمع الحديث واستحقاقات ونتائج وجوده. ولا ينفع في هذه الحالة إجترار الأمجاد مهما كانت خلابة، فالأمجاد المعاصرة التي يفترض صدورها عن مجتمع حداثي مختلفة تماماً عن هاتيك الأمجاد السالفة، على الرغم من ضرورة إحترام المواهب الجماعية عبر التاريخ والتي ظهرت من خلال جدل أو تفاعل العقل والجسد والبيئة المحيطة، والتي سوف تعاود الظهور في التفاعلات الجديدة للمجتمع (السوسايتي). وعليه فإن الممارسة المعرفية للمفاهيم المجتمعية المعاصرة هي الجواب على سؤال من نحن، بمعنى الدخول في عملية اجتماعية مستمرة خاضعة لمستلزمات تأسيس المجتمع الذي يمتلك المواهب والقدرات، على إشهار كيان بشري مفهوم ويمكن التفاهم معه وفاهم لمستلزمات العيش في الكرة الأرضية. عند هذا الحد التبسيطي يتفرمل الجهد التفكيري لدى كثير من المتفكرين بالشأن العام في بلاد العرب، حيث تبدأ المناورات مع مقدس ما (ليس بالضرورة دينياً فقط) ولا تنتهي إلا بالخضوع المتذاكي له بعد تكريس ثقافة مخاتلة تنتهي إلى ضياع أيديولوجي من قبيل المماحكات على جنس الملائكة.
يمكننا، تلخيصاً، القول إن لا نتائج من هذا كله قبل تأسيس المجتمع الحديث، لا اقتصاد ولا ثقافة ولا مجتمع مدني ولا حوكمة إلا في ظل المجتمع (السوسايتي). وكذلك يمكننا القول إن لا وطن أيضاً، فالوطن يحتوي على مواطنين واضحي الهوية المعلنة التي تتولد عن وجود مجتمع قائم على المساواة والحقوق يفرز دولة. أما البلاد فتحتوي على عباد “في حال تطورهم الأقصى، وأخذهم ببعض تلابيب التكنولوجيات المحدثة “، فلسوف يحصلون على جهاز يسمونه دولة فيما بينهم تعلن هويتهم، وهو جهاز قادر على إدارة الأزمات الى ما شاء الله.
لذلك يبدو سؤال “من نحن؟” ضرورياً، لنكتشف على أية أرض نحن واقفوان، وإلى أية جهة يجب أن نتوجه، وما هي استحقاقات هذا التوجه. فالعمل العام ليس عملاً خيرياً، بل هو عمل معرفي موضوعي يتفعل كعمل بالإرادة والقصد، وليس من المنطقي أن تحكمه أو تتحكم به عوامل غير منطقية وغير معرفية. فقد تتحكم به أو تؤثر فيه عوامل البيئة الجغرافية بحضورها الوجودي القاسر، ولكن ليس من المنطقي أن تؤثر فيه أوهام تفسيرية صنمية تدعي الثبات واكتمال المعرفة، إتكاء على أكثرية أو مقدس أو محكوم بأمره. فالعلم يجبّ ما قبله حتى لو كان علماً، والإلتزام به معرفياً هو واجب الكائن المجتمعي وليس فعلا خيرياً أو تبرعاً . فالقضية هنا وجود معاير أو وجود عشوائي غير معاير ينتفي فيه الحد الأدنى لمعالجة الأزمات والخسائر بدلاً عن إدارتها وتدويرها.
المجتمع الواحد هو أمة واحدة كما هي في تجارب العالم المعاصر، ووعي وجود وحضور هذا المجتمع هو القومية بما هو حاضر معرفياً حتى اليوم. قد يكون هذا المجتمع عدة كيانات حوكمية تتدفق فيما بينها المصالح (الإتحاد الألماني أو الروسي مثالاً)، وقد يكون كياناً واحداً بعدة فولكلوريات (أثنية، دينية، لغوية إلخ) تدور بينها المصالح (سويسرا والهند مثالاً). وفي الحالين يكون المجتمع هو ممارسة حقوقية واضحة ومعلنة يترتب عليها سيرورات يمكن تسميتها بالعملية الاجتماعية التي تعيد إنتاج المجتمع بالصورة الأرقى، مولدة في احتدامها هذا الدولة والهوية الحديثين والحداثيين. بمعنى أن المجتمع هو كيان حقوقي بامتياز، ينوجد بالقصد والإرادة، ويستفيد من كل مواهبه وإمكانياته بغض النظر عن عائديتها التراثية أو الفولكلورية أو الأثنية تحت ظلال المساواة في الحقوق والواجبات، كقاعدة إنطلاق للوجود المعاير الذي يمكن نقده.
ليس في يدنا حيلة، ولا بيد جهابذة “الحداثة” و”التراث” أن نغير ما وصلت إليه البشرية (وليس الغرب في أي حال من الأحوال). فعالم اليوم هو عالم مجتمعات شئنا أم أبينا، حصلت وحدثت ونمت وارتقت بالقصد والإرادة خضوعاً لاستحقاقات العلم والمعرفة. مجتمعات تتنافس على الشبع والمنعة والمكانة، لا تترك دوراً لضعيف ولا لقمة لمتكاسل تنبل، وتزدري المتخلف بسبب ثقافته المكتملة. والمجتمع ليس سراً من الأسرار النووية ولا هو معجزة المعجزات، فمن أراد مجتمعاً حديثاً فليتفضل وينخرط في العملية الاجتماعية المؤدية إلى السوسايتي، ومن يفضل البقاء في مستودعات الأحلام السخية فعليه إحتمال مجريات عصره. فالهزيمة كما النصر لها عوامل ومسببات، وويل للذي يذهب إلى نصره متنكباً كل عوامل هزيمته. إنها الدنيا… إنه العالم.