تعتبر سوريا المكان الوحيد في العالم الذي لاتزال لغة العلوم والآداب والفلسفة تعيش فيه، فالذي يميز سوريانا الآن ويميزنا ويشعرنا أننا مميزون عن باقي العالم كسوريين هي أننا نتكلم اللغة الآرامية بلهجاتها، الآرامية التي توزعت إلى غربية وشرقية، فالشرقية فيها عدة لهجات والغربية عدة لهجات أيضاً.
في الكيان الشامي اليوم، لا يزال سكان منطقة الجزيرة شمال شرق البلاد يتحدثون السريانية وهي الآرامية الشرقية التي أخذوها معهم إلى بلاد الاغتراب وبخاصة إلى السويد، منذ أكثر من نصف قرن وبفعل ما سببته الحرب الأخيرة من نزيف مجتمعي أدى إلى هجرة الناس في عملية ممنهجة تهدف إلى إخلاء الشرق الأوسط من مكونه الأصيل.
النزيف الأكبر الذي أصاب لغتنا كان بسبب هجرة الناس وعدم انتقال اللغة إلى النشء الجديد، حيث فاقمت الحرب المستمرة منذ أكثر من أحد عشر عامًا، هجرة سورية _ سريانية من مختلف مناطق كياننا الشامي، وشملت الهجرة حتى الكادر التعليمي الآرامي _ السرياني.
لهذا كانت تأثيرات الأزمة السورية على اللغة الآرامية مباشرة، من خلال سعي الارهابيين وأعداء الحضارة إلى إفنائها وتدميرها ومنع الناس من التكلم بها في معقلها الأخير خاصة في معلولا، في إشارة واضحة إلى أن المسيحيين لم يعودوا موضع ترحيب في وطنهم، لأنه إذا رحل الناطقون بها كيف سيعلو صوتها ومن سينقلها للأجيال المتلاحقة، فالجيل الحالي يحمل من مخزونها القليل وسوف يذهب هذا المخزون برحيله، لأن اللغة تحيا بحامليها ومن يتحدث بها.
لذا لا يجب الاكتفاء بتعليم الآرامية لأجيال جديدة رغم أهمية ذلك، وإنما أيضًا توعية الناطقين بها بشأن أهمية الاستمرار بإحيائها وتعليمها، وتوثيق المخزون الموجود بها حاليًا.
بعد أن كانت الآرامية إرثًا مهمًا ينتقل من جيل إلى جيل، جاءت الحرب لتدق ناقوس خطر زوالها، فبعد أن أرخت هذه الحرب بظلالها على جوهرها، أصبحت هذه اللغة تتألم وتشعر بالخطر، لدرجة أننا أصبحنا نخشى عليها من الصمت الأبدي، وخاصة بعد أن أصبحت لغتنا القومية والتاريخية والتي يجب أن نتجرعها منذ الصغر اليوم لغة الأعياد الدينية والطقوس الاحتفالية وإقامة الشعائر الدينية فقط.
أذكر أنه وبسبب اتقاني لبعض هذه الشعائر والصلوات كان المطران إيلاريون كبوجي يطلب مني أن أصلي معه في كنيسته الصغيرة الموجودة في منزله المتواضع في روما، حيث كان يطلب مني بالتحديد إعادة ترنيم الصلاة المعروفة باسم الصلاة الربانية في انجيل متى 6، ضمن الموعظة الشهيرة التي ألقاها يسوع المسيح على الجبل، والتي وردت أيضًا في انجيل لوقا 11 كجواب يسوع على سؤال واحد من تلاميذه “يا رب علمنا أن نصلي كما علم يوحنا أيضا تلاميذه.”
وكنت ألبي له هذا الطلب بكل سرور، وخاصة عندما كنت أرى البسمة والراحة على وجهه وهو ينظر إلى البعيد، كان يقول لي: “عندما أسمع هذه الكلمات أشعر بسلام داخلي وهدوء نفسي يأخذني إلى عالم الطمأنينة والأمان، إنه إحساس غريب يجعلني أشعر بأني قريب من يسوع المسيح، ما هذا السحر في هذه اللغة السماوية إنها بالفعل لغة الرب” هذا ما كان يقوله لي حرفيًا، حتى إنه طلب مني في إحدى المرات أن أقوم بصلاتها من أجله عندما يموت وقبل أن يوارى الثرى وهذا ما فعلته بالفعل، وعندي ثقة كبيرة أنه سمعني.
وفي أحد الأيام أذكر أنه بدأ بسؤالي عن معاني لكثير من الأسماء في اللغة الآرامية، فشعرت بالخجل الشديد من نفسي لأن معلوماتي كانت تقتصر على ما تعلمته فقط في مدارس الأحد في محافظتي الحسكة.
فما كان مني إلا أن اتصلت بالباحث اللغوي والتاريخي الملفونو أبجر نهرويو حتى يساعدني في إيجاد أجوبة لاهتمامات سيدنا المطران كبوجي بلغتنا الأم.
وكان أول اسم سألني عن معناه هو اسمه، فرسم جواب الملفو أبجر الابتسامة على وجهه وأشعره بالرضا والسرور لأن المعنى جاء كالتالي:
ܐܝܠܐܪܝܘܢ ܟܒܘܫܝ – ايلاريون كبوشي ، الاسم الاول مركب في السريانية ܐܺܝܠ – إيل = معناه الله ، وهي كلمة سورية عمرها اكثر من خمسة آلاف عام، إيل شمس، إله الشمس. إيل سين، إله القمر، إيل بعل. فهنا لم يبق شك لتفسير الشق الاول للكلمة.
أما ܐܰܪܝܳܐ ، أريو، في اللغة السورية فمعناها الأسد.
وهناك أيضاً كلمة الاريوسي، الاسدي، هي بدعة دينية، أخذوا شعار هذه البدعة من الأسد باللغة السورية.
أما بالنسبة لحرف النون، إيلاريون، ففي السريانية نضيف في نهاية الاسم حرف النون للتصغير.
أما كلمة كبوشي نعود لأصل الكلمة في السريانية
ܟܒܰܫ : كباش، حاصرَ، ضغطَ، هاجم
ܟܒܳܫܳܐ: كبوشو، أخذ
ܟܰܒܶܫ : كابِش، أخضع، قهَر
و ܟܳܒܘܫܳܐ : كوبوشو، موطئ
أصبح نستطيع أن نعطي جميع هذه المعاني لكلمة ܟܒܘܫܝ ، كبوشي.
“المصادر بحث في اللغة السريانية من خلال القواميس السريانية”
أي أصبح اسم سيدنا المطران بعد هذه الدراسة أسد الله المنتصر (القاهر).
فما كان منه إلا أن يسأل على معنى اسمه الأصلي قبل الرهبنة فكان رد الملفونو أبجر:
ܓܘܪܓ : جورج بمعنى حندقوق، وهي نبتة ربيعية تنبت في بلادنا، وأيضًا اسم القديس جورج أو جرجس، وكان اسم هذا البطل الحقيقي جورج، عند رسامة اي مرتبة كهنوتية يعطى له اسم من الاسكيم البطريركي، وهو لقب للمطارنة والرهبان.
فقلت له كم أشعر بالخجل من نفسي لجهلي بلغة أجدادي.
وعندما علم إنني سوف ألتقي بسيادة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الرئيس الأعلى للكنيسة الأرثوذكسية في العالم مار أفرام كريم طلب مني أن أخبره على لسانه ألا يدخر سبيلا في دعم جميع الوسائل التي تسعى لإعادة لغتنا في بلادنا، وليبذل كل جهد ويستهين بكل مشقة، وألا يدخر وسعًا في إعادة إحياء لغتنا الأم، الذي هو حارس عليها الآن.
وعندما كنت أنقل هذه الرسالة لسيدنا البطريرك تعجبت من رد سماحة الشيخ أحمد بدر الدين حسون الذي كان حينذاك المفتي العام للجمهورية السورية وقد كان حاضرًا على هذا الكلام فقال:
بأن الرسول كان قد طلب من أحد الصحابة أن يتعلم اللغة السريانية.
فحين بدأ الرسول في إبلاغ دعوته للعالم الخارجي، وإرسال كتبه لملوك الأرض وقياصرتها، أمر زيد بن ثابت بن الضحاك أن يتعلم بعض لغاتهم فتعلمها في وقت وجيز.
حيث كان قد أمره أن يتعلم السريانية – ليقرأ له كتبهم، والرسائل التي كانت تصله، فتعلمها في سبعة عشر يومًا.
فإذا كان الرسول حريص كل هذا الحرص على هذه اللغة العظيمة فما بالنا نحن الآراميين الذين نعتبر الجيل الأخير ليسوع المسيح، ألا يجدر بنا أن نحافظ عليها من الاندثار بسبب جهلنا لقيمتها التاريخية والروحية.
اللغة التي تكلم بها عمانوئيل السوري “السيد المسيح” هي لغتنا ولغة آبائنا وأجدادنا وقد حافظنا عليها في قلوبنا منذ أكثر من ألفي عام ونخاف أن نكون نحن آخر الناس على وجه الأرض من يتحدث بها، بعد أن تضاءل عدد من يتقنون الحديث بها، وللأسف حتى دون إتقان كتابتها، وأعداد هؤلاء الأشخاص في تناقص نتيجة النزوح داخل سوريا وخارجها والتوقف التدريجي عن استخدامها، فاليوم نصف من يتقنون التحدث بالآرامية هم ممن تجاوزوا الستين من العمر، ووفق تقديرات منظمة اليونيسكو التي تصف الآرامية بأنها لغة مهددة بالانقراض، علينا دق ناقوس الخطر لإنقاذ لغتنا من اندثار محتمل قد تتعرض له هذه اللغة المقدسة التي ترتبط بالأرض.
فكما يتم العمل على إعادة تأهيل البنى التحتية وإعادة الحياة لوطننا، يجب أن نتفاعل ونضافر جهودنا من أجل ابقاء لغتنا حية، وأن نحافظ عليها بكل إدارة وتصميم.
يجب على الحكومة فعل أي شيء لدعم هذا الإرث، لأن تعليم هذه اللغة جزء من هذا التاريخ وجزء من التربية الوطنية، لأن السوري يجب أن يكبر ولديه شعور بالاعتزاز بهذا البلد وما أورثه أجداده له، وما فيه من مزايا تميزه وتجعله خاصًا أو تعطيه خصوصية لا يجدها في أي مكان آخر في العالم. لابد من إدخال تعلم اللغة الآرامية في مناهج المدارس الابتدائية والاعدادية وحتى الثانوية كما ندرس أية لغة أخرى.
يجب أن تكون الآرامية مادة مصيرية للنجاح، ففي فحص البكالوريا في الكيان الشامي مثلا لدينا اللغة العربية هي المادة “المرسبة”، يعني إذا رسبت فيها ترسب في كل المواد، واليوم علينا أن نجعل من اللغة الآرامية هي المادة المرسبة لأن الذي لن يستطيع النجاح في إرثه ولغته وحضارته فلن يستطيع النجاح في أي مجال من مجالات الحياة.
الذي يهدد هذا الإرث الخالد الذي هو أثمن من كل الأوابد الموجودة في سوريانا، هو من يريد تصنيف اللغة الآرامية كلغة دينية فقط وليس كلغة قومية، بهدف تدمير الإرث الحضاري في إطار الحرب على التراث السوري، لأن هذه اللغة موروثة وموجودة قبل انتشار الديانات السماوية، ولا تعود لرمزية الأديان فقط، وإنما لرمزية وجود الحضارة السورية منذ الأزل وهي رمز من رموز تاريخنا، فهذا الإرث هو ملك سوريا والعالم أجمع، فهي تراث انساني بكل ما للكلمة من معنى.
اللغة الآرامية موجودة في سوريا من قبل الميلاد، وكانت في عصرها الذهبي عند مجيء المسيحية لذا خاطب السيد المسيح الناس بالآرامية لأنها كانت اللغة المتداولة بينهم، فالمسيح عندما جاء كان هو وأمه المقدسة هما من تحدثا بها.
الآرامية ليست لغة المسيح بل إن عمانوئيل السوري هو من تكلم بها، تكلم بلغة السوريين، السوريين الآراميين الذي هو منهم، فهو لم يعلمها لهم، بل على العكس هي من حملت معه رسالة المحبة والسلام التي دعا بها إلى العالم، وبها خاطب ربه على الصليب “إيلي، إيلي، لما شبقتني.”
المطالبة بإعادة احياء الآرامية، طلب قومي ومن صلب العمل الوطني وليس الكنسي، فرمزية اللغة الآرامية هي رمزية الوجود السوري، وإن السعي لتطويرها وغربلتها من المفردات العربية الدخيلة عليها يعتبر جزءًا من واجبنا تجاه لغتنا للحفاظ عليها، والتي، بسبب هذه الحرب، قتلت أي فرصة للحفاظ على لغتنا وتطوير أدواتها بما حملته من أعباء مادية ومعنوية ومجتمعية هددت بوقف نقلها من جيل إلى جيل.
ومن موقع انتمائي الديني للكنيسة الأرثوذكسية التي أفتخر وأعتز بها، والتي لا تزال مدارسها الخاصة تهتم بتدريس لغتنا الوطنية حتى اليوم، أناشد بطريرك أنطاكية وسائر المشرق مار أفرام كريم، الرئيس الأعلى للكنيسة الأرثوذكسية في العالم أن يدعم هذه الصحوة المتأخرة لإعادة إحياء لغتنا في بلادنا فنحن السكان الأصليين ونحن الأحق في نشر إرثنا وحضارتنا، ونحن أصحاب الأرض والسوري الحقيقي هو من يستطيع الإدماج معنا وليس العكس، وألا يكتفى بمعهد تعليم اللغة الآرامية الذي هو فقط محاولة اسعافية للحفاظ على ثقافتنا وأن يطالب الدولة بمساعدتنا بأي وسيلة لمقاومة اندثار لغتنا، لغة الثقافة والعلاقات الدبلوماسية الأولى، التي لم يشفع لها تاريخها عندنا ولم نعرف كيف نتمسك بها كإرث حضاري قبل أن تكون إرثا كنسيًا، وأن تطالب سيادتك من موقعك، أن تكون لغتنا لغة رسمية إلى جانب العربية، والضغط من أجل وضعها ضمن المواد الرئيسية في المدارس وليس الاكتفاء فقط بإدخالها إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة دمشق، وأن يتم تعليمها بشكل جاد وصحيح مع كل لهجاتها، وخاصة السريانية التي أعطت سوريا اسمها، ومحاربة كل المتعصبين والمعادين للتراث والثقافة الآرامية_ السريانية حتى نستطيع إعادة لغتنا السامية إلى مكانها الصحيح في أرضنا، فهذا من صلب عملك الوطني قبل الكنسي.
رغم كل الآثار الموجودة في سوريانا في كل زاوية وكل حجر وصخرة وحبة تراب، تبقى اللغة الآرامية أثمن كل هذه الآثار والأوابد، لأننا من خلالها نختزل التاريخ الإنساني.