القرار الهدية ـ حسان يونس

Share

من الجائز القول إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أصبح مدمنا كطفل مشاغب على إثارة الضوضاء ولفت الانتباه في مجمل تغريداته وقراراته التي تلتقي جميعا في الخروج على المواثيق وأسس العلاقات الدولية كاتفاق باريس حول البيئة والتفاهم الدولي حول الملف النووي الإيراني والتفاهم الدولي حول رفض احتلال أراضي الغير (وهو ما ينطبق على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في العام 1967)، فقد خرق ترامب هذا التفاهم من خلال قراره العام الفائت نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ومن خلال مرسومه الأخير القائل بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان

لكن بعيدا عن الضوضاء التي أثارها الرئيس الأمريكي حول الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، والتي ربما سيثيرها في مواقف أخرى كثيرة ستتوالى تباعا كالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية كما تشير التوقعات، بعيدا عن هذه الضوضاء، يمكن القول إن قرار الرئيس الأمريكي الذي رفضته كافة دول العالم والمنظمات الدولية والإقليمية ذات الصلة لا يحمل صفة قانونية ومن ثم فهو لا يضيف جديدا فيما يخص واقع السيطرة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان.

وتتقاطع أغلب التحليلات الرسمية والإعلامية حول قرار الرئيس الأمريكي في أن هذا القرار هو عبارة عن هدية مزدوجة قدمها من جهة لحليفه الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومن جانب آخر لنفسه. فمن المعروف أن الرئيس الأمريكي وصل إلى سدة الحكم نتيجة الدعم الواسع من قبل المسيحيين البروتستانت داخل الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك تقتضي مصلحته تقوية شعبيته بين هؤلاء المسيحيين الذين يعتقدون بقيامة إسرائيل وسيادتها على العالم. إضافة إلى ذلك يمثل هذا القرار إغراء للدوائر اليهودية المعتادة تقليديا على دعم خصوم دونالد ترامب الديمقراطيين ودعما لرئيس الوزراء نتنياهو الذي كان في موقف صعب قبيل الانتخابات البرلمانية. فالاتهامات تجاه هذا الأخير تورطه في قضايا فساد أوصلته إلى خضم كارثة سياسية قبل ثلاثة أسابيع فقط من انتخابات عامة مصيرية في نيسان 2019 إثر تطورات “قضية الغواصات” التي يعتبرها الكثيرون إحدى أخطر قضايا الفساد في تاريخ البلاد الأمني، والمتعلقة بشراء حكومة نتنياهو لغواصات وسفن ألمانية لصالح الجيش الإسرائيلي. فنتنياهو متهم بامتلاك أسهم في إحدى الشركات المساهمة في تصنيع هذه السفن والغواصات، إضافة إلى اتهامه بإعطاء الضوء الأخضر لألمانيا لتوريد الغواصات نفسها إلى القاهرة دون استشارة الجيش، ما يراه الكثيرون في إسرائيل إخلالا بالالتزام بالتفوق النوعي للدولة العبرية مقابل تحقيق مكاسب شخصية

.

يضاف إلى هدية الرئيس الأمريكي هدية أخرى حصل عليها بنيامين نتنياهو من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإعادة رفات الضابط الإسرائيلي زخاريا باومل، المفقود منذ عام 1982، خلال معارك السلطان يعقوب والذي كان مدفونا في مخيم اليرموك. وهكذا يظهر أن النظام الدولي بأقطابه دفع باتجاه إعادة انتخاب بنيامين نتنياهو، وقدم العطايا في سبيل ذلك من الجيب السوري استكمالا للتحضيرات من أجل صفقة القرن.

إن النظام الحاكم في سورية هو النظام الأخير من عائلة أنظمة القومية العربية المعروفة بقدرتها الفائقة على اجترار الهزائم وامتصاصها ومن ثم إعادة فرزها على شكل انتصارات إعلامية خُلَّب بما يكفي لتنويم الرأي العام – أو ما تبقى من رأي عام – وامتصاصه. أما فيما يخص مسألة الاعتراف الأمريكي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، ورغم أن جميع الدول والمنظمات الدولية أعلنت موقفا رافضا لهذا القرار تماشيا مع القوانين الدولية الواضحة في هذا الشأن، فلم تستطع الدولة السورية بلورة أي حالة داعمة استنادا إلى موجة الرفض الدولي لقرار ترامب، نظرا لظروف العزلة السياسية التي تعانيها ونظرا لتقاليد أنظمة القومية العربية في العجز عن التقاط الفرص والممكنات والهرب بديلا عن ذلك إلى الخطاب الخُلَّب.

مع بداية الأزمة السورية في العام 2011 كثر الحديث في أروقة الشارع السوري وفي أروقة القيادة السورية عن قلب الطاولة على الأعداء الإقليميين والدوليين من خلال إطلاق حرب مقاومة شعبية ضد إسرائيل عبر الجولان. إلا أن هذا الحديث لم يكتمل لاعتبارات تتعلق بالعامل الروسي والتوازنات المرتبطة به والتزاماته تجاه الأطراف الدولية والإقليمية وفي مقدمتها إسرائيل. فاستنادا إلى الخطورة العالية لخطوة من هذا النوع من شأنها أن تتدحرج سريعا إلى حرب إقليمية ليس من الممكن خوضها بالنسبة لكافة الأطراف، ما كان إلا أن انتهى مشروع المقاومة الشعبية عبر الجولان إلى تجهيز بنية تحتية واستعدادات استشهد على أثرها الشهيدان سمير القنطار وفرحان الشعلان في حادث الاغتيال المعروف في أيلول من العام 2015، إضافة إلى آخرين كانوا يقومون بأدوار في منطقة جبل الشيخ وغيرها من المناطق المتاخمة للحدود مع الجولان المحتل من ضمن ما يسمى “المقاومة الوطنية السورية في الجولان” التي نشطت في مناطق دروز الجولان وجندت مقاوميها لصالحها.

 فإثر القرار الأميركي، انتشرت في أوساط المعارضة السورية تلك الرواية المعروفة حول بيع النظام السوري للجولان والتفريط بالأرض والمصالح القومية بحيث تحول الموقف المشترك بين السوريين فيما يخص قضية الجولان إلى مشادة وسجال بين النظام ومعارضيه ومحاولة من كلا الطرفين اكتساب مزيد من الشرعية من خلال التأكيد على “خيانة الطرف الآخر”. وسط هذا التشظي والتشتت حول مسألة الجولان لم يقم أي طرف بحياكة الخيط الغامض والواصل بين منح فرنسا لواء اسكندرون لتركيا في العام 1939 وبين منح ترامب الجولان لإسرائيل (مع فارق السيطرة الإسرائيلية المسبقة على الجولان) وهو خيط يقودنا إذا ما تتبعناه إلى حقيقة أن الجغرافية السياسية السورية في تآكل مستمر منذ مئة عام، وغير معروف أي جزء أو أجزاء ستتآكل في المستقبل القريب؟

.

0
0