الفينيق جورج يونان
مزيجٌ من الشعور يعتري الواحدَ منّا تجاه تسمية “الفينيق” لما لحقها من تشويه وتحريف. فالذين حجَّموا هذه الكلمة هم أكثر بكثير من الذين أدركوا مغزاها الحقيقي. في لقاء في القنصلية اللبنانية بنيوورك منذ حوالي ثلاث سنوات، ومع احترامي الشديد للغاية النبيلة للقنصل في سعيه الإعلامي والتثقيفي لأفراد الجالية وفي إيمانه بالجمع بين الناس وبالحوار بينهم، جاء أحدهم ليحاضر عن الفينيق و”فينيقيا”. والقنصل، كما الجمع، كان يتوقع حديثاً عن الإنجاز الحضاري لبلاد كنعان في أوغاريت وفي جبيل حيث ظهرت الأبجدية واللغة، وعن طموحات شعبٍ لم تنتهِ عند شفاف البحار والمحيطات، وعن التجربة الروحية للإنسان في ملحمتي “كِرِتْ” و”بعل”. إلا أن هذا المحاضر جاء بخريطة تمتد حدودها بين النهر الكبير والناقورة شاملاً الساحل والسلسلة الغربية وبالكاد سهل البقاع. وقَعَرَ هذه القطعة من الأرض من برها الشرقي الذي حجبه إطار الصورة اليميني وأسماهُ “فينيقيا”. ثم أخرج من هذه القطعة من البرُّ دخاناً وجَّهه فوق المتوسط ليتشكل على ما يشبه طائراً سمَّاهُ طائر الفينيق.
هذا المفهوم عن الفينيق بأنه أسطورة طير مرتبطةٌ بالكيان السياسي اللبناني القائم الآن، ليس مفهوماً سائداً في لبنان فقط، ولكنه مفهوم سائدٌ في كل أرجاء الهلال الخصيب. وهو مفهوم خاطئٌ ومهمِّشٌ لمغزاه التاريخي.
في مطلع مقال حديث، وتحت عنوان “الفينيقيون… حضارةٌ صامتة وسجلات مندثرة”، يقول الكاتب صقر أبو فخر: “هناك إنكسارات عميقة الجذور في الهوية اللبنانية، وفيها شقوقٌ كالهاوية، بل تشققات جمَّة، لم تتمكن الدولة الحديثة، أي “دولة” بعد الإستعمار، من جبرها على الإطلاق. ومن علامات ذلك التشقق، الصحوات المفاجئة بين الفترة والأخرى، لإعادة إحياء “التاريخ” الأسطوري القديم للبقعة التي صار إسمها” لبنان”…”
ويورد أبو فخر أمثلة عديدة، موثقة بالمراجع والوقائع التاريخية، بأن هذه المحاولة لإعادة كتابة التاريخ كان فيها تشققات جمَّة، وكان فيها تزييفٌ في الحقائق، وإدعاءاتٍ لا يدعمها سندٌ تاريخي. ويخلص في نهاية المقال إلى القول: ” لا أعتقدُ أن الفينيقيين أسسوا حضارة قائمة بذاتها، بل كانوا جزءاً من نطاق حضاري واسع، شمل الساحل السوري كله بين عسقلان والإسكندرون، ومشرقه حتى نينوى وأور وبابل”.
كنعان إسم قديمٌ لبلاد عمرها ابتدأ أكثر من خمسة عشرقرناً قبل الميلاد، تمتد من كيليكيا شمالاً إلى أعماق فلسطين جنوباً فإلى ما وراء السلسلة الشرقية شاملة قِمَمَ العمالقة في الحرمون وفي قاسيون. وشاء الإغريق، ثمانية قرونٍ بعد ذلك، أن يطلقوا على هذه البلاد إسم فينيقيا التي تعني في لغتهم الإغريقية اللونَ القرمزي، لأنَّ كنعان كانت تُطْلي مراكبها بهذا اللون.
وليس الفينيق طيراً، وإنما رؤيا وتأمل أدَّيا إلى فكرٍ ترسَّخ في التجربة الروحية للإنسان السوري في كل أرجاء الهلال الخصيب، وخلالَ ما يقارب الخمسة آلاف سنة. وقد أقتبسته أممٌ أخرى كالإغريق: “جيا” إلهة الأرض التي تزوجت من “أورانوس” إله السماء. فالإنسان وليد الزواج بين إثنين ساكنين لا يتحركان كانا: الأرض والسماء. وهكذا ولدت الحركة والحياة. وكذلك كانت ولادة المسيح: زواجاً بين السماء والأرض.
ومن أكبر المؤرخين الذين كرَّسوا أعمالهم العديدة لتجربتنا الروحية يأتي في الطليعة المؤرخ الشامي فراس السواح، فهو الذي قال في كتابه “الأسطورة والمعنى” إن “الإله الواحد هو قناعٌ يبدو به المطلق في الزمن والتاريخ. ولكن الزمن والتاريخ يأتيان إلى نهايتهما المحتومة في كلِّ النُظُمِ الدينية والميثولوجية. وعندما يأتي الزمنُ والتاريخُ إلى نهايتهما المحتومة، يبدو الإله الواحدُ نفسه بلا ضرورة أو وظيفة، ووهماً من أوهام الصيرورة، عندما تؤولُ الحيواتُ والأكوانُ إلى المطلق العظيم الذي نشأت عنه”.( ص 217). أي أنها تعود إلى الركون وإلى السكون.
وينظرُ إلى الزواج بين الأرض والسماء ويسمّيه، في كتابه “الأسطورة والمعنى” بالزواج المقدس، ويورد هذا الحوار بين الإلهة “إنانا” وحبيبها “تموزي” إذ تقول: “فرجي قرن الهلال\ فرجي قارب السماء\ ملؤهُ رغبةٌ كالقمر الجديد\ وأرضي متروكة بغير حرث\ فمن لي أنا إنانا بمن يحرثُ أرضي؟\ بمن يحرث لي فرجي؟\ من لي بمن يفلحُ حقلي؟\ من لي بمن يفلح أرضي الرطبة؟\… في حضن الملك ارتفع الأرز\ ومن حولهما نما الزرع عالياً\ ومن حولهما تدافع القمح سامقاً \وازدهر كل بستان”. هذا ليس كلاماً سوقياً وإنما شعرٌ رمزيٌ ذو مغزى سبق حركة الحداثة الشعرية بآلاف السنين.
فراس السواح يؤمن “بمنهجِ المجاز الطبيعاني، الذي يجعلُ من ظواهرِ الطبيعة شخصيات إلهية، ويرى إلى الأسطورة باعتبارها بنية رمزية تقابل نقطة نقطة جانباً من العالم الطبيعاني”. والعبرة هنا ” ليست بما نحفظه عن الماضي، بل في المعنى الذي نسبغه على ذلك الماضي وفي القيمة التي نعطيها له“. (ص 72 و113).
ثم يقول: “إن الرموز الأسطورية التي استخدمها الإنسان القديم ليست إلا وسيلة إيصال وقالب تعبير. إنها لغة متميزة، تحاولُ من خلال مفرداتها وتعابيرها ومصطلحاتها إيصال حقائق معينة، وهي منهجٌ له من المشروعية ما لبنية المناهج التي ابتكرها الإنسان، لاحقاً، إذا أخذنا بعين الإعتبار، العملية التطورية البطيئة والصاعدة، التي سار بها عقل الإنسان منذ فجر التاريخ“. (“مغامرة العقل الأولى” ص 34). وفي هذا الخصوص ينظرُ إلى الأسطورة على أنها : “تراكم لنتاج الفكر الإنساني المبدع في مجال الأدب. فالأمثال الصغيرة التي يرويها حكيم القوم سوف تُروى مرات ومرات. ولن يُقاوِمَ الراوي رغبته الملحة والمشروعة في الإضافة إليها من عناصرَ جديدة نابعة من خياله الخاص، ومن ظروفٍ إجتماعية مستجدة، تُحيطُ بالراوي الجديد وعندما تأخذ القصة شكلها المكتمل، تكونُ قد عبَّرَتْ عن طابعٍ فني وأدبي لشعبٍ من الشعوب. إلا أن هذا الشكل الفني لا ينفصل عن مضمونه الذي ينجو في غالب الأحيان لأن يكون تأملياً، يقدم للمجتمع نظريات في السلوك والأخلاق والتوجه الإجتماعي”. (“مغامرة العقل الأولى” ص 14- 15). ويتابع في الصفحة 21 ليقول: “والأسطورة حكاية، حكاية مقدسة، يلعبُ أدوارها الألهة وأنصاف الآلهة، أحداثها ليست مصنوعة أو متخيلة، بل وقائع حصلت في الأزمنة الأولى المقدسة. إنها سجل أفعال الآلهة، تلك الأفعال التي أخرجت الكون من لجَّة العماء ووطدت نظام كل شيء قائم، ووضعت صيغة أولى لكل الأمور الجارية في عالم البشر. فهي مُعْتَقَدٌ راسخٌ، الكُفرُ به فقدان الفردِ لكلِّ القِيَمِ التي تشدُّهُ إلى جماعته وثقافته، وفقدان المعنى في هذه الحياة”.
ثلاث أقانيم ميَّزَتْ تلك التجربة الروحية: الحركة والولادة والخلود. وهي مترابطة، لا ينفصل بعضها عن بعض. وقد تبدو بسيطة وبديهية، ولكنها عميقة الجذور تعود إلى ما قبل التاريخ الجلي.
فأقنوم الحركة، أو البعد الرابع، هو إبتكار سوري مقولته بأن الزمن في حركة أبدية لا تتوقف. وبموازاة ذلك تأتي حتمية الوجود الأبدي. فالحركة هي “الأرينا” الذي يتسابق فيه الوجود والزمن. فالوجودُ لا يمكن أن يظل ساكناً، فأي شيءٍ، إن ظل ساكناً حتميتُه الإندثار، وحتى الألهة تصبح بلا معنى حين يركن كل شيء كما أشار إليه السواَّح آنفاً. فلا خيار للوجود إلا بحتمية أخرى وهي الحركة ، فما يسمى موتاً ليس إلا فاصلاً وانتقالاً بين حياتين. فالإنسان خالد. وحركة وجود الإنسان – آدم نحو خلوده لا تتم إلا بولادة جديدة. هذا الذي اكتشفه جلجامش، رغم عظمته وجبروته، في رحلته إلى غابة الأرز بحثاً عن الخلود: “إتخذ زوجةً ونم بسلامٍ على كتفها\ إنها تجد المسرة في أحضانك\ وانظر إلى الصغيرِ على يدك\ هكذا ستقضي كل أيامك…” (ملحمة جلجامش،اللوح التاسع).
وهذا هو مغزى الرؤية في استشراف سعاده “الأجيال التي لم تولد بعد”.
في الملحمة السومرية إله السماء “آنو” ملتحم بإلهة الأرض “أنكي” إلتحاماً سكونياً، فكل شيء ثابت في الكون لا صوتٌ ولا حركة: “وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء”. (سورة هود ـ 7). “في البدء خلق الله السماء والأرض وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرفُّ على وجه المياه”. (سفر التكوين).
وفي هذا المغزى يقول المؤرخ السوري فراس السواح في كتابه “مغامرة العقل الأولى”: “دورُ الإنسان في هذه الحياة ليس دوراً سلبياً، بل إيجابي فعال ساهم استمرار الوجود وسير الأكوان، ومساندة الألهة في تكرار فعل الخلق الأول وإنتاج زمن جديد وعالم جديد. كما أن الإنسان، عن طريق المشاركة الرمزية في إفناء العالم وإعادة تجديده، يتوحَّدُ رمزياً في فعل الخلق الكلي الهائل ويتجددُ هو نفسه أيضاً، ويشعر أنه قد تطور ودفن خطاياه مع العالم الذي انقضى بدون رجعة”. وهذا هو المغزى من ملحمة الطوفان الرافدية وبطلها “أوتنابشتيم” (نوح)، ولم يكن المغزى إفناء الجنس البشري كما أَمَرَ به يهوه التوراتي.
واحتراق الفينيق القديم الذي كان قد شاخ ووهن ما كان إلا تمهيداً لولادة جديدة، والولادة هي الأقنوم الثاني في تجربتنا الروحية.
إذن سكون الآلهة كان لا بد أن يتبدد، فالزمن بحركته ليس له قيمة إلا إذا اقترن بحركة الوجود، وحيث لا وجود لا زمن لا آلهة.
وسكون التلاحم بين “آني” و”أنكي” بددته الولادة الجديدة، وهي ولادة أنليل من هذا الإقتران بين والديه آنو وأنكي. (ومن هنا اقتبس الإغريق الفكرة). وأنليل لم يكن إلا ذلك الهواء العليل الذي جاء بالحركة والخلق. تقول الملحمة السومرية:
” لولا أنليل، الجبل العظيم،
لما بُنيت المدن ولا أقيمتْ المستوطنات،
لما أقيم ملوكٌ ولا وُلِدَ كبار الكهنة،
ولغدا العمال ليس عليهم رئيسٌ ولا مشرف ( تشير إلى النظام).
لولاه ما جلبت الأنهار مياه الفيض والإرواء.
لولاه ما وضعت الأسماك بيوضها في أدغال القصب (ولادة الأسماك)،
ولما بنت أطيارُ السماء أعشاشها في الأرض الموحشة ( ولادة الطيور).
لولاه ما جاءت سحب السماء السائرة بمياهها،
ولما نَمَتْ النباتات والأعشابُ تزهو بها السهول،
ولا أقبلت الحبوب الوفيرة في المروج والحقول،
ولما أعطت الأشجارُ في غابة الجبل ثمارها”.
وكذلك الأمر مع الإله “مردوخ” إذ شطر جسم الإلهة “تعامة” إلى شطرين أحدهما خلق منه السماء والآخر خلق منه الأرض: “أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما”. ( سورة الأنبياء ـ 30)
أما خلود الإنسان، وهو الأقنوم الثالث، فلن يحصل بدوام الوضع الراهن، وبديمومة الوجوه القديمة، فلا بد من إنسان جديد. وهذا لن يحصل إلا بقدوم “الأجيال التي لم تولد بعد”.
فما مغزى هذا الحديث كله؟ إنه برسم دعاة المحافظة على الوضع الراهن. فليست هذه “ثقافة” الحاضر فقط، وإنما هي “الثقافة” التي سادت قروناً عديدة. وهي برسم الكانتونات الحزبية الثلاث التي خرجت على رؤيا أنطون سعاده، وكفرت بالتجربة الروحية والحضارية لشعبنا العريق. هي برسم هؤلاء الذين أمعنوا في المراوحة وصم الآذان والكذب والفساد، وفي “إنجازاتهم” الكارثية. نقول لهم: هرمتم، وركنتم، وسكنتم. آن آوان رحيلكم. إنه زمنُ الأجيال التي ما كانت قد وُلِدتْ بعد، فأخلو متاريسكم.
____________________
(*) الدكتور جورج يونان: طبيب من مواليد منطقة الخابور- الحسكة، مقيم في الولايات المتحدة منذ 1973 حيث يمارس المهنة في إختصاص أمراض القلب والشرايين في ولاية نيوجرسي منذ العام 1978. رئيس منظمة الأطباء العرب الأميركيين في الولايات المتحدة عام 1994. له مجموعة من القصص والقصائد والدراسات الأدبية والفكرية والعلمية نُشِرت في مجلات وصحف مختلفة، وبعضها صدر في كتب.