يعود إلى ضفاف الفرات، يعجن من طينه صلصالاً للألوان، يشرب من حضارة عمرها آلاف السنوات ويرسم. أجداده كانوا هنا عندما صنعوا ملامح الفن والفكر، وكان عليه أن يحمل الرسالة المغتذية من ذات المخيلة.. أعمال تصويرية تقارب الوجدان والعقل، تربط الماضي بالحاضر، وترسم للمستقبل آفاقاً جديدة مازالت تقض مضجع الفنان ابراهيم الحميد بأسئلتها ومداراتها التي تنبش في الذائقة السورية وتعيدها إلى الحياة عبر فطرية نادرة تميز بها الحميد.
يقول الفنان ابراهيم الحميد لمجلة “الفينيق” الألكترونية:
“أنا ابن الفرات، وأحمل مخزوناً منذ طفولتي الأولى أخبّئه تلك الضفاف والمساحات الواسعة التي أهدتني اللون والخط وأسلوب التعبير.. الشمس برتقالية في أعمالي، وذلك يعود إلى شدة الحرارة التي تنعكس على الأرض في ضفاف الفرات وتعطي ذلك اللون المختلف.. من تلك الذاكرة الطفلية أستمد مخيلتي، وهي غير منفصلة عن تاريخ الفنون السورية القديمة بدءًا من أوروك وآشور ونينوى وبابل وصولاً لليوم.”
لا تنتمي لوحات ابراهيم الحميد إلى مدرسة بعينها، فهو لم يتأثر بالفنون الأوروبية، بل عاد إلى ثقافته المحلية وبيئته وانفعالاته الشخصية التي شكلت في مجموعها رؤيته الجمالية وأسلوبه في التعبير اللوني. يقول:
“حتى اليوم يؤثر في وجداني فيضان الفرات في الربيع، ونزوح أهالي بلدة البوكمال وهم يدقون على الأواني النحاسية ويرددون الأغنيات المتوارثة منذ آلاف السنين.. هذا المخزون امتلك مفاتيحي السرية في الرسم، كأنني ما أزال حتى اليوم أعيش طفولتي على ضفاف الفرات، حتى إذا رسمت مدينة دمشق، أرسمها بذائقة فراتية، حيث يكون على النهر العظيم المقدس أن يحضر في كل عمل كأنه الإله أوتنابشتيم وهو يرعى ولادات الطبيعة والكون.”
الفنان ابن بيئته، وهو نتاج تفاعل طويل مديد ينتقل عبر قطرة الماء وأشعة الشمس وحرث الأرض وقطاف المحاصيل.. دائرة تفاعلية تعتبر المهد الأول للفنان الحميد. يقول:
“الشمس والتراب والماء، تلك الثلاثية العجيبة في منطقة الفرات، عجنت خلايا مخيلتي ووسمتني بطابعها، وأنا مدين لتلك الثلاثية فيما أنا عليه الآن، ربما لا يعثر الأشخاص العاديون على تلك المفردات بشكل سهل وواضح في العمل الفني، لكن من يدقق في اللون وأسلوب المزج والتدرجات، سيكتشف وجود تلك البيئة في أعمالي، إننا محكومون دائماً بالعودة إلى الجذور، من أجل أن تنمو الأغصان بالشكل الصحيح وترتفع نحو الأعلى.”
يدين الفنان الحميد للمرأة الأم، ويحتفي بها في معظم أعماله، ويقول: “والدتي صنعت مني فناناً دون أن تدري.. عندما كانتت تخبز على التنور وتغني، وعندما كنا نخرج إلى الأراضي الزراعية فأشاهد النساء “العشتاريات” وهنّ يلبس لباسهن الملوّن ويعملن في الحقول، كأنهنّ سيدات الأرض. تلك الحفيدات العشتاريات لهنّ الفضل على مخيلتي وذائقتي الفنية التي تجدونها في أعمالي، وأنا لا أردّ الدّين، بل أعبر عن وجودي بشكل فطري طبيعي، وجودي في أسطورة جلجامش ومجد أوروك وسومر وآكاد وآشور. إنها السلسلة التي لا يمكن قطعها أبدًا.”
يتعامل الحميد مع الفن بقدسية عجيبة، فمنذ أن كان يسميه والده “بالصامت” نظراً لقلة كلامه، إلى اللحظة التي اختار بها التعبير باللون، إنها دورة اجتماعية بيئية طويلة تحفر بهدوء داخل فكر ووجدان الفنان. يقول:
“أدخل إلى المرسم، وأشعر أنني أحمل تاريخًا كاملاً معي. جلجامش وأنكيدو والفرات وتموز وعشتار، وأمي وأبي وأساتذتي، وكل المدن الغافية على ضفاف النهر الذي حملناه معنا منذ أن سبحنا للمرة الأولى في مائه.. الصمت أفادني كثيراً، فأنا لا أعبر بالكلام، بل باللون والخط وكل الاحتمالات الغريبة بينهما.”
خسر الفنان ابراهيم الحميد بيته ومرسمه في مدينة زملكا بريف دمشق أثناء الحرب، وقد تعرض المكان للنهب والدمار، فسرقت منه 458 لوحة وأصبح المكان أطلالاً من الخراب. اضطر الفنان لمغادرة دمشق باتجاه بيروت، حيث عمل فترة ثم انتقل إلى دبي.