فخّارة نديّة بالمياه وملفوفة بقطعة من الخيش الخشن الندي لهي أطيب وأشهى من آلاف المياه المعلبة والمبسترة. هي زيارتي لبيت جدي وحكاياته وخبراته في الحياة من علمتني أن المياه لا تشرب إلا من رأس النبع أو من فخارة مجبولة من تراب هذه الأرض. أما عنّي، بنت جيل الثمانينات، فقد عشت تقنين المياه وانتظارها في قرية صغيرة وكيف كانت تنتهي جلسة القهوة الصباحية للجارات بمجرد أن تقول إحداهن (جت المية). وهي حكاية سوء إدارة لملف المياه في قرية صغيرة، وفساد بعض الأشخاص ممن توالوا على بلديتها في استمرار لتوارث المشكلة ونقلها للأجيال القادمة.
وفي انفصال كامل عن الواقع وصناعة المستقبل تطالعنا أخبار من نوع عقد المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي بالتعاون مع الاتحاد الدولي لصون الطبيعة ندوة حملت عنوان “تراث المياه: الممارسات الثقافية في الأراضي الرطبة”.. أو من نوع “سجلت دولة العراق منطقة الأهوار ومدن أور وأريدو وأوروك على قائمة اليونسكو للتراث العالمي.” ما جدوى إثبات الوجود السياسي والثقافي في هكذا محافل ونحن نخسر حياتنا ووجودنا الفعلي على الأرض كل يوم. فما قيمة تسجيل التراث والممارسات الثقافية على قوائم المنظمات الدولية إن كنت بعد عشر سنوات إن لم يكن أقل سأكون فقدت المياه والأرض والانسان الحامل لهذه القيم وبالتالي سيتم شطب هذه العناصر واعتبارها نسياً منسياً منقرضاً بعد عشر سنوات. أليس الأجدر بنا أن نحافظ على وجود مصادرنا وثرواتنا البيئية والطبيعية وعلى الإنسان الحامل لهذه القيم في حياته اليومية، من خلال خطة متكاملة وليس من خلال فعاليات صغيرة مبعثرة أو دروس نظرية لا نذكر منها شيئاً.
أذكر الصدمة التي عشتها صيف عام 2002 عندما شاركت لأول مرة ببعثة تنقيب موقع أم تلال في منطقة الكوم. فكل الدروس النظرية في كتب التاريخ والجغرافيا التي درسناها أطفالاً لم تترك في ذهني سوى خرائط جغرافية لمحافظات سورية. لم أعرف سوريا ولا أهلها إلا عند احتكاكي اليومي بهم وزياراتنا لكافة المدن والمناطق الشرقية. عرفت الفقر والاحتياجات البسيطة من طريق معبّد وهاتف ومياه وكهرباء (وصلت لاحقاً بالأعوام 2005-2006) وعرفت بندورة الكوم الأشهى والألذ في العالم لسبب التربة الكلسية والمياه الجوفية الكبريتية.
أليس الأجدر بنا أن نعمل على خلق الرابط النفسي والعاطفي بين الجيل الجديد والأرض التي يعيش عليها. ومن قال إن السيران الذي يبحث فيه السوري عن قطعة أرض خضراء أينما تكن لقضاء بعض الوقت الممتع مع العائلة هو ظاهرة متخلفة علينا القضاء عليها ومحاربتها أليس الأنفع ترك المساحات الخضراء في المدن وعدم بناء ناطحات السحاب فوقها!!!
ومن قال إن معرفة قصص ملوك وأساطير من تاريخنا هي ضرب من الرفاهية لا لزوم له! أليسوا هم رأس النبع الذي علينا أن ننهل منه لنستمر. أولم تَدرُسُنا كبريات الجامعات ومراكز الأبحاث العالمية وتدرس نفسيتنا وتاريخنا وتراثنا قبل أن تخطط لكيفية التحكم بنا من خلال نقاط ضعفنا!؟
ويبقى الفرات ودجلة حبيبان ينبعان من هذه الأرض ويصبان فيها، موسيقى وجمال وتنوع وغنى. هما الأساس ونستمر على الرغم من كل هذه الهمجية.
0 Comment
اعجبني المقال وفيه ربط جذورنا بواقع اليم كدافع للتغيير